ولو ردوا لعادوا
بقلم: عبد الرحمن عللوش
{وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام : 27]
{بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ۖ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام : 28]
أتتخيل معي ما تحاول أن تضعه الآيةُ الكريمة في ذهنك!! ولذا بدأها المولى -عز وجل- بقوله : {ولو ترىٰ} يطلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- وعيا وفَهما بمراتبِ التخيّل لدرجة أن لو أمكنه الله ليراهم هو بعينه وينظر ما سيكون ردهم,وهنا يأتي وجه تميّز للآية من البداية، وهو تميّزٌ للاستقبال عن الآية والتّلقي منها بشكل مختلف، تعرض لنا الآية باختصار رد فعل أصحاب النار حين يُوقفوا عليها، مُتمنّين أن لو يرجعوا ليعملوا صالحا، فتخبرنا الآية الأخرى أنهم لو ردوا لعادوا لما نُهوا عنه، ولكذّبوا وكفروا بالله مرةً أخرى.
تعالوا معي نُبسط الآيتين في أذهاننا على عدة أوجهٍ متتابعة:
1. بدايةً وقبل أي شيء، لن يفهم ويدرك الآيتين ويُحسن النهل منهما أفضل من خير الخلق أجمعين -صلى الله عليه وسلم- ، والأمر سواءٌ على باقي آيات القرآن، ولكن حديثنا هنا في آيتين على وجه الخصوص؛ فهو أعلم الناس عن الله وأعرفهم به؛ فضلا على كمال صفاته -صلى الله عليه وسلم- ، والأخصّ في هذه الوقفةِ أنّه أُعرج بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أراه الله بعض أحوال أهل الجنةِ وأهل النار، فهو أدرى الناس بمثلِ هذه المواقف، أنا لا أُعطي أسبابا لبيانِ تفرّد النبي -صلى الله عليه وسلم- على غيره وفقط، وإنما أسرد لرؤيةِ استعدادِ النبي -صلى الله عليه وسلم- في التّلقي عنربّه -عز وجل- بما أراه الله؛{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ….} [النساء : 105].
والنقطة التالية ستوضح سبب ذكري لهذه النقطة الأولى بدايةً.
2.أحسبُ أنه يكاد من المستحيل أن يكون للعقل البشري قدرة كافية للتخيل القانع أن يُعرض أُناس على النار ليُعذّبوا في جحيمها ولهيبها نتيجة كفرهم بالله وتكذيبهم لرسوله، ويعودوا مرةً أخرى ليكفروا به ثانية!!! هل تتخيل معي؟!!
أناسٌ بدا لهم من الله ما كانوا يجحدوه من قبل وتبيّن لهمضلال سعيهم ورأوا الحق بأعينهم، ووجدوا أن الله -عز وجل- حق، والرسول -صلى الله عليه وسلم- حق، والنار حق، والجنة حق، واليوم الآخر حق، وها هم أمام النار ليسقطوا فيها، فاعطاهم الله فرصة أخرى -على وجهٍ من الافتراض والتقدير- ويكفرون مرةً أخرى بعد كل هذا البيان؟!!
3.هذا يذكرني بالمعضلةِ المشهورة وهي: كيف أننا في قدر الله وعلمه مكتوبون مؤمنون وكافرون ومن ثم سيحاسبنا الله على إيماننا وكفرنا؟!!
وأزعم أنه لم ولن توجد إجابةٌ قطعيةٌ على هذه المعضلة، بيد أنه يمكن أن نوارب على ضبابيتها بعض الشيء بمسألة الاختيار والتسيير، ولكن في مثل هذه المسائل تتوقف حدود علمنا، ونؤدبّ عقولنا على ما أراد الله أن يُعّلمه لنا، وأرىٰ أن مثل هذه التساؤلاتِ وإجاباتها تُصغي مطمئنةً عند هذه الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ …} [المائدة : 101]
هل تخفى على أحدٍ محدودية علم الإنسان؟!!
وهل بإمكاننا إنكار وجود أشياء فوق علمنا ومعرفتنا؟!
ولا أعرف هل لا بد للجاهل في الفيزياء أن تؤرقه طول حياته قناعة أن الطائرة تطير فوقه دون أن تقع؟!
فما بالك بعوالم (الميتافيزيقا) التي تنطمس عنّا كلّما تغوّصنا فيها، وأنا أؤمن بفائدتين: أولهما أن في مثل هذه المُداخلات الجدليه ما غاب عن علم الإنسان ولن يجد لها سبيلا من المعرفة والحكمة، فلم يأتك الوحي لتغربل فيه على هواك، وإن لم يقترن إيمانك بما غاب عنك فأي إيمانٍ هذا الذي تقوم عليه؟! وكيف تستقيم سريرتك لله وترى في نفسك الاستسلام والخضوع لمولاك الذي هو جوهر وأصالة هذا الدين، هذه واحدة وأما الثانية فهي الفائدة المريحة غايةَ أن تضع السكينةَ في قلوب العباد لكل ما أخفاه الله عنّا وأبعده عن علمنا وسَعة إدراكنا؛ فالله خلقنا على ضعفٍ ويقدّر ذلك فينا، فلا يريد أن يؤذينا فيما لا طاقة لعلمنا أن يصل إليه أو ادراكنا أن يحوط به، فذلك من باب التخفيف على الإنسان وقصور مدركاته وحدود مستقبلاته، وإلا فقد يسلب هذا الجدل الوجودي من المؤمن بعض إيمانه ولا يقنع بحكم الله في أشياءٍ -والعياذ بالله- وقد نسي قول الله -تعالى- من قبل :{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء : 123]
- لننتهي من النقطةأعلى، أنت عبدٌ لله، تخضع لمدير هذا الكون، فأنت مُدار على وجهٍ كوني، فلا تُعيّن نفسك مُستشارا على الله -وهو المدير- ؛ لترىٰ قانعا راضيا كيف يدير هذا الكون، قبل أن أبدأ معكم في استخراج العطايا من الآيتين السابقتين، أسرد إليكم بعض آي الذكر الحكيم لتقرأوها بتدبر، ونذكر إعجاز القرآن في أجوبةٍ استعابت مداركنا:
{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۗ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران : 108]
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ۖ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء : 40]
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس : 44]
{وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف : 49]
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء : 47]
{فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس : 54]
{الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر : 17]
وذكر في غير موضعٍ :{وهم لا يظلمون}، {وما ظلمهم الله}
وفي الحديث القدسي: {إني حرّمت الظلم على نفسي}.
ولا أعرف ماذا سيُغير في الأمر من شيء لو لم يُحرم الله الظلم على نفسه؟! وما سيُغنينا من الله من شيء؟!!
إلا أنه -تعالى- يريدُ هدايتنا على علمٍ عنده، هذا العلم لا يتسق مع ضعفنا إلا أن يُعلِمنا أنه {حرّم الظلم على نفسه}، هل علِمت قدرك الضئيل بين كل هذا!! وكيف أن الله يُعاملك أكرم وأرأف ما يمكن أن يعامل به ربٌ لعبيده.
إن الله -عز وجل- يعامل عباده بالرحمة واللطف والحلم فوق ما تتخيل؛ فإن نظرت من الجهة الأخرى لوعيت ذلك في قول الله -تعالى- : {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل : 61]
5.لنعد إلى الآيتين في أول المقالة، ولنجاوز بخواطرنا عجز قدرتنا على كمال التخيل ونكتفي باستنباط المعاني النيّرة من الآيتين على إيماننا بصدق الله -عز وجل- إذا أخبر، أول ثمرةٍ تلقّفتها من الآيتين هو طلاقة العدل الإلٰهي، وهذه قدرةٍ لا يقدر عليها سوى ربٍ قيّومٍ عدْلٍ يأخذ صفاته -عز وجل- من إطلاقات أسمائه، فلا يترك لعباده شيئا يُحاجّوه به على جزائه لهم، انظر لهذه الآية الصارخة في وجه كل مآلاتهم المتنطّعة وتفلسف حُكمهم على حُكم الله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام : 149] فحجة الله بالغة على الناس جميعا حتى لهذه الدرجة التي يُعرض فيها الكافر على النار فإن عاد إلى دنياه كفر بربّه أخرى، يقول القرطبري هذا بالضبط ما فعله إبليس وهو في الملأ الأعلى عند ربّه عندما رأى الحق جليا دون غيب عنه، وبالرغم من هذا فقد عاند عناده.
6.تنقلنا النقطة السابقة إلى تعميق فهمنا لقوتي الخير والشر التي سُخّرت بيدِ الإنسان، يقول الله –تعالى-:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد : 10], لنأخذ الآية من منطلق آخر، فالنجد: هو العلو، وجمعه نجود ومنه سميت نجد، لارتفاعها عن انخفاض تهامة، فالنجدان: الطريقان العاليان، ألم يُشعرك هذا اللفظ بتجلّي الطغيان وامتلاء النفس بأيهما: الفجور والتقوى، {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس : 8] لا حد لطغيان الإنسان ولا نهاية لجحوده، هذه الفكرة من اللامحدودية في الكفر والجحود التي يتعالى بها الإنسان على ربه تأتيك مباشرةً من ردّ هؤلاء السريع على ربهم عندما قالوا {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ}, كأول ما جاء في بالهم وهم معروضون على النار، وهو النقيض تماما لما فُطر عليه بنو آدم وتربّت عليه نفوس عباده المؤمنين الخاضعين المستسلمين إلى مولالٰهم: وهو الاعتراف بتقصيرهم في حق الله وكفرهم به وإنكار ذلك على أنفسهم والتماسِ العفوِ ورجاء الاستغفار من الله مولاهم الحق؛ كما علّم الله أبوينا: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَالْخَاسِرِينَ}[الأعراف : 23]
فأي الفريقين أحق برجاء العودة إن كنتم تعلمون؟! الذي سيُرَد للجنة الخالدة أم الذي سيُرَد لظاهرٍ من الحياة الدنيا؟!
بينما فضح الكفار قولهم، ووجّه الطرف على خبث باطنهم؛ لأنهم يريدون الدنيا التي ما أرادوا غيرها من قبل، واطمئنوا لها.
{وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة : 12]القرآن لغته عجيبة ترفع الأنفاس وتخفضها في السياق الذي يتطلب ذلك, فانظر لقولهم: {ربنا أبصرنا وسمعنا} ألم ينخفض رتمك وتكاد تُلملم أنفاسك كأنها تصنع لك جوا من الذل والمهانة، فإذا ما قالوا {فارجعنا} ارتفعت أنفاسك وصعد زهو صدرك، فهذا جوّهم من التطلع والتمني والأمل كما كانوا من قبل في الدنيا {يأكلوا ويتمتعوا ويُلهِهِم الأمل}، لغتهم الموهومة واحدة وأقوال نفوسهم الكفيفة متشابهة
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأعراف : 53]
ولذا فقد ذكر القرطبي في تفسير {وإنهم لكاذبون} المعنى وإنهم لكاذبون فيما أخبروا به عن أنفسهم من أنهم لا يكذبون ويكونون من المؤمنين{وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين}
7.النقطة السابقة تقرّبنا لتخيل فعلهم ولو بنسبة قليلة، ولذا فهم الآن أمامنا في الدنيا مرةً ثانية وقد كفروا أخرى، وهذا يُعطيك إشارة واضحة على نقطتين: أولهما قدرة العقل البشري العجيبة على مضاربة المنطق وغربلة البيان والحق، الصفة البشرية قادرة على الانغماس في طلاسم الجدلية الهوائية إلى الحد الذي يصير معها الباطل أبين الحق ويستحيل في نفسها الضلال عين الهداية: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف : 30]
فقد قال الله -تعالى- في آيةٍ تؤكد هذه الجدلية: {وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلا}، ولعلنا نلاحظ أن الآية هنا لم تصف ولكنها أطلقت، فإن كان للجدل قوالبٌ تحدد شيئيته فالإنسان أعظمهم نصيبا، والنقطة الثانية هي حرص الله -عز وجل- على كمالية التبليغ وتمام آياتِ الاستدلال عنه -سبحانه- واستدامة مُضاءات الحق له ولشريعته فيما لا يستطيع أن يكذبها منْ وصلته بحقيقتها دون مسخٍ أو بُهتان أو تحريف، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون.
ما أود ان أختم به أن الله إذا أخبر فقد صدق وقصُر فَهمنا وذابت ضئالة حُكمنا في سعة حِكمته وعظيم علمه -سبحانه-؛ {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة : 50]