ماذا عطّل السعي في أيام كورونا؟
(لهذه الأسباب لم أغرس فسيلتي ج1)
بقلم: فاطمة محب محمد
كم عضضنا بنان الندم في كل مرة فوّتنا فيها درسًا أو لقاءً علميًّا لضيق الزمن المتاح لدينا كما ظننا؟
كم مرة غبطنا من يتسع يومه لعمل إصلاحي يثقل به ميزانه؟
كم عدد الروابط المحفوظة على أجهزتنا تضمها قائمة “المشاهدة لاحقًا” ؟
وكم تمنينا لو أدركنا ذلك الموعد اللاحق الذي يتفلّت مِنّا بين تروس المسئوليات تفلّت صبيّ عنيد؟
ها هي التروس قد توقفت، وسماء العلوم تزينت، وأرض السعي تهيأت، وألجا كوكبنا اللاهث ظهره إلى ركن ليأخذ استراحة محارب أو محارَب.
أحكم قبضته على جسيمات تاجية متناهية الدقة، فنثرها بكل ما بقي لديه من عنفوان لتعمّ الأنحاء والأرجاء، ثم اختار دور المشاهِد، ليرى كيف لِمَن أفسد دهرًا أن يلعب اليوم –مضطرًّا- لعبة الإصلاح؟ وكيف لمن تاق دهرًا للإصلاح أن يختار اليوم –مسئولًا- أريكة القاعدين؟
وعن الفئة الثانية سطوري القادمة.
***من لم يغرسها اليوم لن يغرسها غدًا***
روى أحمد، والبخاري في “الأدب المفرد” ، و البزار في مسنده عن أنس بن مالك أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها”
ولفظ أحمد: “إن قامت على أحدكم القيامة، وفي يده فسيلة فليغرسها”
وصححه الألباني في “الصحيحة”.
أخبرنا علماؤنا أن المراد بقيام الساعة هنا قد يكون حصول أشراطها الكبرى المؤذِنة بقرب قيامها، كما قال “المناوي” رحمه الله: “أراد بقيام الساعة أماراتها، بدليل حديث: “إذا سمع أحدكم بالدجال وفي يده فسيلة فليغرسها فإن للناس عيشا بعد“.
ومقصوده الأمر بالغرس لمن يجيء بعد، وإن ظهرت الأشراط ولم يبق من الدنيا إلا القليل”[1].
بالرغم من هذا، فإنه مثل ضربه من لا ينطق عن الهوى: ضرب المثل بفسيلة النخيل تحديدًا لا بغيرها، وعند تأمل هذا المثل نجده يجمع الوعي واليقظة والعلم والقدرة والقوة والثبات والصلابة النفسية الكافية لإتمام عملية تستغرق من خمس إلى تسع دقائق ممن سبق له غرس الفسائل.
متى كل هذا؟ عند قيام الساعة سواء كان المراد الساعة بأهوالها أو أشراطها الهيّابة!
لم يضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلا يسيرًا ويكفيه عسرًا أحوال الأمر به، فماذا لو ضرب –صلى الله عليه وسلم- مثلا لما يجب على أمته عند عموم بلاء واحد كوباء “كورونا” الحالي؟
ما ظنك بما يمكننا اليوم بذله من منازلنا، ينعم جلّنا بالكهرباء والماء والغاز الطبيعي، ونحيا وسط أحبتنا مستورين مرزوقين، وتربطنا بالعالم كله شبكة الإنترنت؟!
تُرى، من لم يغرس فسيلته في نازلة اليوم، هل سيتمكن من غرسها إن قدّر الله له أن يشهد أشراط القيامة الكبرى؟
وما الأسباب التي حالت بين المرء منّا اليوم وبين غرس فسيلته؟
في نقاط جامعة أحاول الوقوف على تلك الأسباب علّنا نعجّل بعلاجها قبل يوم الغرس الأشقّ.
((1)) فساد التصور عن الفسيلة
الفسيلة ليست وليدة النازلة، بل يُفتَرَض وجودها قبلًا، فعدم جاهزيتك بتصور مسبق منضبط عن ماهية الفسيلة التي يمكنك غرسها اليوم هو أول العوائق.
قد لا تملك تصورا عنها من الأساس، وقد يقع تصورك فريسة لوهم التضخيم والتقزيم، فتمسك يدك بالفسيلة لكن تصوّرك يقزّمها ويحقر منها مقارنةً بالضخامة التي يحتكم إليها ويعاير بها، فالسؤال هنا: ما تصورك عن فسيلتك التي تستطيع أن تغرس اليوم لا الغد؟
هل مراقبتك لسلوك أبنائك والانتباه أكثر لتربيتهم فسيلة؟ هل صومك فسيلة؟
هل نفعك لأهلك وجيرانك وعون مريضهم وضعيفهم وشيخهم فسيلة؟
هل الانتهاء من مدارسة دورة في علوم الشرع أو في تخصصك فسيلة؟
هل توبتك اليوم توبة نصوحًا فسيلة؟
نشر علم نافع .. أمر بمعروف ونهي عن منكر .. دعاء ودموع وتضرع.. تذكرة بالله وبقدرته.. الحفاظ على منزلكِ نظيفًا واتباع تعليمات الوقاية أخذًا بالأسباب تعبدًا لله….. مَن يرى في أيٍّ من هذا فسيلته؟ ومن لا يرى؟
علينا أن نعلم بأنما السيل اجتماع النقط، وأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
قد تمر على فسيلة مزروعة تحكم عليها باليبس، وما حكمك إلا فرع عن تصورك عن الغرس الحيّ عامة، وفرع عن تصورك الفاسد عن الفسيلة الحيّة خاصةً إذ لا تعلم أنها قد تبدو يابسة لمدة تصل إلى عامين إلا أنها تنمو من الداخل ولا يظهر نموها إلا بعد العامين!
أتضح كم هي مهمة تصوراتنا عن فسائلنا؟
((2)) هشاشة البناء الإيماني والنفسي
“يوجد شيء واحد فقط يروّعني وهو ألا أكون جديرًا بآلامي” قالها الطبيب النفسي “فيكتور فرانكل” في رائعته “الإنسان يبحث عن المعنى”
وأقول: يوجد شيء واحد فقط يروّعني، وهو أن يكون بنائي الإيماني النفسي غير جدير بابتلائي.
ابتلاء اليوم بفيروس “كورونا” له خصائصه المميِّزة، مثل: المفاجأة، وسرعة الانتشار، وفيض الأخبار، والترويع بفقد الأحبة، وغياب مصادر المتع الخارجية، واستحثاث الخوف من المجهول داخلنا، وغير ذلك[2].
وللبناء الإيماني والنفسي أيضًا مكوناتهما، من سلامة المعتقد، واليقين، والتوكل، والصبر، والتوازن بين حاجات الجسد والروح، وكيفية استخدام أدوات العقل، والإرادة الحرة، وإدارة الجانب الغريزي، وتبني النموذج الأخلاقي النابع من منظومة الدين، وغير ذلك.
والبناء ضم الشيء إلى الشيء[3]؛ فإذا ضممتَ مكونات بنائك الإيماني والنفسي معًا، هل سيتمكن البناء من تحمل الأزمة الحالية بخصائصها فيعلو فوقها ويبلى بلاء حسنًا في ظل وجودها؟
أم تجده بناء هشًّا لم يواجه اختبارًا حقيقيًا من قبل ليفاجأك اليوم بنقص جودته وتمكُّن الفيروس منه وانقضاضه عليه يلتهمه بشراسة تفوق شراسة نَيل المرض من ضحاياه؟!
((3)) التواصل بغير تراحم مع النفس
كنت قبل فرض حظر التجوال بيوم واحد غارقًا في أحلامك التي تستهلّها ب”ماذا لو” ؟ ماذا لو كان بإمكاني التفرغ للسعي في قضاء الحوائج؟ ماذا لو وصلت نهاري بليلي أترجم نصوصًا لغير العربية لدعوة غير المسلمين للإسلام؟ ماذا لو سنحت الفرصة لاستكمال بحثي ونشره؟
جاء قرار الحظر، ومرّ يوم تلو يوم. مر أسبوع، ومحصلة منجزاتك = صفر.
ماذا فعلت؟ رحت تجلد ذاتك بأعتى السياط: أنت منافق كاذب ضعيف. بالتأكيد استبدلك الله لما رأى في قلبك من رياء. لو كان قلبك سليما لاستخدمك الله وهيأ لك الأسباب.
الآن أنت تضيّع عمرك وغيرك يضيف إلى عمره أعمارًا بالعلم النافع والسعي المثمر.
ثم ماذا بعد ذلك؟
لم تنجز أي شيء أيضا، بل ربما ما كنت مواظبا عليه بقلب حاضر خاشع في أسبوع الحظر الأول، فرّطتَ فيه شيئا فشيئا بعد ذلك.
إذا مررتَ بتلك التجربة مع نفسك مؤخرًا، فمرحبًا بك في فخ التواصل بغير تراحم!
التواصل هو حالة من الفهم المتبادَل بين نظامين أو كيانين، يكون أحد هذه الأنظمة مرسلًا وقتا ما، ومن ثم يكون الآخر مستقبلا، وفي وقت آخر يتبادل كلا الطرفين المواقع من حيث الإرسال والاستقبال، وفي حال التواصل مع نفسك تكون أنت المرسِل والمستقبِل في آن.
إلى هنا يبدو الأمر بسيطا متكررا يوميّا عشرات وربما مئات من المرات، فكل نظرة إلى نفسك، وكل إنصات لها، وكل حديث إليها تواصل، وكذلك كل إنكار عليها وكل تنكّر منها وكل إهمال لها وكل تهوين أو تهويل لرسائلها تواصل،
لكن هل كل تواصل بينك وبين نفسك تراحميّا؟
أجاب هذا السؤال عالم النفس الأمريكي “مارشال روزنبرغ” في ستينيات القرن العشرين؛ إذ وضع نموذجا للتواصل بتراحم (التواصل اللاعنفي) الذي عرف لاحقًا باختصاره: NVC (Non Violent Communication)
NVC هو التواصل بغير أذى، تواصلًا يضمن لعملية الاتصال الجودة ولنتائجها السلامة ولعلاقاتنا الاستمرارية الراشدة. هذا النموذج صالح للتطبيق على علاقاتنا بأنفسنا وبغيرنا، لكنّي في هذا المقام أتناول (التواصل بغير تراحم مع النفس) وأثره في مهمة غرس الفسيلة، لذلك سأعيد مثال الحديث إلى النفس الذي ذكرته سالفًا، لكن بشكل تراحمي، ولنضع أيدينا على الفرق والأثر.
-فلنقل إن حديثك إلى نفسك بعد أسبوع غير مثمر كان على النحو الآتي:
لا بأس. قضيتُ أسبوعًا ذا خصائص جديدة، وفُرِضَ عليّ نمط حياة لم أعتده من قبل، ومع هذا أدّيتُ فروض يومي وليلتي، وكنتُ مهمومًا بما يتعدّى ذلك. الآن أشعر بالحزن. أحتاج الشعور بتحقيق إنجاز أكبر. إذًا أبدأ اليوم إن شاء الله بتلخيص كتاب “سابغات” لأستاذ أحمد يوسف السيد، وغدًا أنهي تنسيق الملخص وأنشره.
ماذا لاحظت؟
*نموذج التواصل الأول: جلد وتسليط الضوء على ماتم إنجازه وإهمال منجزات حقيقية، وإصدار أحكام، ونعت بأوصاف، والنتيجة تثبيط الهمة والقعود.
*نموذج التواصل الثاني:
أ-ملاحظة الحال بغير وصف ولا إصدار أحكام Observation :
(قضيتُ أسبوعًا ذا خصائص جديدة، وفُرِضَ عليّ نمط حياة لم أعتده من قبل، ومع هذا أدّيتُ فروض يومي وليلتي، وكنتُ مهمومًا بما يتعدّى ذلك)
ب-الإنصات إلى شعورك وتسميته باسمه Feeling :
(الآن أشعر بالحزن)
ج-الإنصات إلى احتياجك وتحديده مجردا من أي ربط أو تعقيب Need :
(أحتاج الشعور بتحقيق إنجاز أكبر)
د-الطلب من نفسك طلبا واضحًا قابلًا للتحقيق يساعد في تلبية احتياجك ويعينك لتكون أفضل حالًا Request :
(إذًا أبدأ اليوم إن شاء الله بتلخيص كتاب “سابغات” لأستاذ أحمد يوسف السيد، وغدًا أنهي تنسيق الملخص وأنشره)
ونلاحظ هنا ثلاثة أمور مهمة:
< الكتاب عدد صفحاته قليل، وقد تدارسته مثلا من قبل، فيسهل عليك تلخيصه وتنسيقه ونشره في يومين، فالطلب هنا ليس معجِزًا ولا متحديًا لنفسك.
< مهم جدا أن يظل طلبك من نفسك في خانة (الطلب) لا (الأمر) ، ولها الحق في تنفيذ طلبك أو رفضه أو تنفيذه جزئيا، فإذا لم يتحقق تعاود التواصل معها بنفس الخطوات التراحمية لتقف على الأسباب التي حالت دون تنفيذ طلبك، وهكذا
< أنصِت إلى نفسك ولا يعني هذا أنك دائمًا تدللها، وإنما تريّضها، والعبرة بالأثر والعمل وقطع الأشواط معها في الطريق الصحيح، وإن لم تُرَ أيٌّ من أشواطكما معًا!
النموذج التراحمي الأخير:
هذا يختصرونه ب OFNR لمن أراد الاستزادة والبحث بشأنه.
هكذا نجد كم هو مؤثر في غرس الفسيلة نوع التواصل مع النفس، وأهمس في أذنك بأن مقالي هذا ماهو إلا نتاج جلسة تراحمية مع نفسي اجتهدتُ خلالها في الإنصات إليها واستحضرت فيها مخلوقيتي أكثر مما استحضرت من إنسانيتي كقيمة مطلقة مجردة، وأعددت لنفسي حينها كوبًا من الشاي الأحمر الشهيّ الذي لم ينقصه إلا ورقتان متوسطتا الحجم من النعناع الأخضر منعني من توفيرهما حظر التجوال!
جرِّب وأخبرني: بمَ فاجأتك نفسك حين اتخذت قرارك بالتراحم معها؟
(يتبع)
[1] التيسير – المناوي (1\372).
[2] من محاضرة “السكينة وقت الأزمات” – د خالد الجابر المنشورة بتاريخ 28\3\2020 – بتصرّف
[3] الفائق في غريب الحدث والأثر –محمود بن عمر الزمخشري – دار المعارف –لبنان – ط2، ج1، ص130