تُرى .. ما هي الأخلاق ؟
وما الذي يميزها عن غيرها من الصفات والملكات الإنسانية ؟
وما هي السلوكيات التي تنبثق عن دوافع أخلاقية ؟
وما الفرق بينها وبين غيرها من السلوكيات ؟
إن الأخلاق هي صفات مستقرة في النفوس سواء كانت فطرية أو مكتسبة، ولها انعكاسات وآثار في السلوكيات سواء كانت محمودة أو مذمومة .
فالأخلاق تنقسم إلى أنواع: منها مذمومة وأخرى محمودة ، وقد جاءت تشريعات الأنبياء وكتب السماء لتكريس الثانية والنهي عن الأولى .
ولقياس صلاح الخلق من فساده علينا تتبع أثاره وانعكاساته على الفرد والمجتمع؛ فالخلق الحسن تنتج عنه آثار حميدة والخلق السيئ ينتج الفساد قال تعالى: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ[1]
وكلما ترسخ الخلق في النفس تنعكس آثاره في سلوك صاحبه، إلا إذا حدث ما يمنع هذه العلاقة الحتمية بين الخلق وبصماته في تصرفات الإنسان وسلوكياته مع ربه ومع نفسه ومع الناس .
لكننا لا نستطيع أن نعد كل الصفات المستقرة في النفس من ضمن الأخلاق؛ فهناك صفات ملازمة للإنسان هي من قبيل الغرائز والعادات والدوافع التي لا صلة لها بالخلق .
وما يميز الأخلاق عن غيرها من الصفات المستقرة في النفس؛ هو قابلية الأخلاق للتغيير والروز مدحا أو ذما، لأن للغرائز آثارا في السلوك لكنها لا تذم ولا تحمد مثل الأخلاق.
وعندما نتأمل في السلوكيات الإرادية للإنسان نجد أنها متعددة؛ فمنها ما ينتج عن خلق معين سواء كان محمودا أو مذموما؛ كالبخل أو الكرم ، وكالشجاعة والجبن ، و كالتطلع والعفة …
كما أن من السلوكيات ما هو استجابة للغرائز؛ كالأكل والشرب والمعاشرة والنوم ….
ومنها وما هو من قبيل الترجيحات العقلية والفكرية؛ كالنظر للعواقب ومآلات الأمور والمصالح والمفاسد …
كما نجد من السلوكيات ما هو من الآداب الشخصية والاجتماعية؛ كالنظافة والنظام ، وآداب الأكل والشرب والنوم …
ومن أرقى أنواع السلوكيات ما كان استجابة للأوامر التكليفية التي جاء بها الأنبياء والرسل، أو السلطة العامة التي تترتب عن العيش في مجتمع؛ كطاعة أوامر الله في الحلال والحرام ، أو الامتثال للقوانين والتشريعات والنظم …
ومن السلوكيات ما هو استجابة للعادات والتقاليد وما تعارف عليه أفراد المجتمع والتي تسري في السلوك بعامل التقليد المحض وقوة التأثير الاجتماعي؛ فتفرض على الإنسان الخضوع لها والتصرف وفقها بحكم العادة والتوافقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد.
فالسلوك الإنساني له أنواع شتى، مما يجعل الناس يخلطون بين مختلف مظاهر هذا السلوك ويجعلونها من قبيل السلوك الأخلاقي، وهذا مما يوقع الباحثين في موضوع الأخلاق في كثير من الأخطاء الفادحة، بسبب عدم تميزهم بين أنواع السلوك الإنساني .
فسلوكيات الإنسان؛ منها الأخلاقي، ومنها الذوقي والجمالي ومنها ما يتعلق بأحكام دينية، فما جاءت بها شريعة ربانية وجب طاعته وامتثاله كنوع من الاستجابة الطوعية والتعبدية لأمر الله تعالى ، وما كان من وضع البشر يقدر بقدره ولا يصح أن ينسب للدين من غير حجة أو دليل، كما أن العادات والتقاليد قد تحمد وقد تختلط بكثير من الخرافات والنقائص؛ فليس لها سلطة الإكراه الذاتي بل ينبغي أن تتوافق مع شرائع الدين والمعهود من شؤون العقلاء وإلا فلا حاجة في طاعتها والامتثال لها.
بل إن من خطة القرآن الإصلاحية التي تعتبر أساسا مميزا لها عن بقية الشرائع الأخرى: رفع الناس عن مستوى التقليد الأعمى وتتبع عادات الآباء والأجداد دون وزنها بميزان الدين والعقل.
ومعلوم أن كثيرا من الأحكام الدينية هي أحكام أخلاقية؛ لأن الأديان تأمر بمكارم الأخلاق وتنهى عن سفاسفها، كما أن كثيرا من أحكام العادات والتقاليد هي أحكام أخلاقية أيضا، ومن هنا تتداخل الأمور فتضطرب نظرة كثير من الباحثين والدارسين.
وهو ما يتطلب دراسة متأنية، وتحر دقيق للمسائل، من خلال الرجوع إلى الأصول الكبرى التي تعود إليها مكارم الأخلاق.
ويمكننا القول أن الخلق منه محمود ومذموم؛ فالمحمود هو كل صفة ثابتة في النفس سواء كانت فطرية أو مكتسبة؛ تدفع إلى سلوك إرادي- أي بعيد عن القصر والإكراه- محمود عند العقلاء.
فالأخلاق الحميدة هي كل سلوك فردي أو اجتماعي تستحسنه النفوس البشرية على اختلاف الأديان والمذاهب والعادات والتقاليد والمفاهيم.
كما أن الخلق المذموم هو صفة ثابتة في النفس فطرية أو مكتسبة تدفع إلى سلوك إرادي مذموم عند العقلاء، ونميزها عن غيرها من خلال استقباحها واستنكارها مهما اختلفت الأديان والمذاهب والعادات والتقاليد والمفاهيم.
لذلك كان من الأصول المرعية في الشريعة الإسلامية الخاتمة: العناية بالأخلاق، من خلال بيانها، وذكر فضلها، والحض على التزين بها.
وقد اختصر النبي صلى الله عليه وسلم رسالته فقال: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق“[2] .
فجعل غاية ما بعث من أجله إتمام مكارم الأخلاق التي تعارف عليها الأنبياء والناس في كل زمان ومكان؛ لأن الإنسان مذ وجد وهو يتخلق شاء أم رفض.
بل وردت كثير من الآثار والأخبار التي تحض المسلم على التخلق بالمكارم من الأخلاق وتنهاه عن التردي في المذموم منها، وتفضيل الخلق الحسن على غيره من الأعمال كقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن المؤمنَ لَيُدركُ بحُسن الخُلق درجةَ الصائمِ القائم“[3].
ورسم النبي – صلى الله عليه وسلم – صورة لرجل من أمته كان يُصَلِّي وينفق ويصوم، ولكن أخلاقه لم تستقم، فأخبر أنه سيأتي يوم القيامة لا ليدخل الجنة بل ليدخل النار، يقول النبي – عليه الصلاة والسلام -: “أَتَدْرُونَ مَا الْـمُفْلِسُ؟”. قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: “إِنَّ الْـمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ“[4].
وبين أن رفعة الدرجات يوم القيامة إنما تحصل بالتزين بمكارم الأخلاق فقال: “إنَّ من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحسانكم أخلاقًا”[5].
لذلك تعظم الحاجة إلى دراسة الأخلاق، ومحاولة تتبع أصولها وسبل الاتصاف بها، وهي أمور سنفصلها ونزيدها بيانا في مقالات قادمة؛ حتى تستقر في النفوس عظمة الأخلاق الحميدة ويسهل على المكلف التزين بها.
[1] سورة ابراهيم ، الاية 26 .
[2] مسند البزار عن أبي هريرة.
[3] رواه أبو داود وأحمد وصححه الألباني.
[4] رواه مسلم.
[5] رواه الترمذي وحسنه الألباني.