يطالب العلاّمة الزعيم علال الفاسي رحمه الله في هاتين المقالتين (الوثيقتين) اللتين كتبهما في فجر الاستقلال (سنة 1956)؛ بالتعجيل باعتماد العربية وتجاوز الأسباب التقنية والتاريخية التي فرضت على المغاربة لغة المحتل .. ويستنكر بشدة كون بعض الدوائر والادارات تنكرت للتعريب وتراجعت عما تم تعريبه وانتكست إلى الفرنسة ..
فرنسة ما كان عربيا
بقلم: علال الفاسي
مقالة منشورة بتاريخ: 22 أكتوبر 1956
تتحدث الأوساط الشعبية كثيرا عن مستقبل العربية في المغرب، وهل سيكون لها حظ في عهد التحرير، يخرج بها من طور اللغة التي لا نصيب لها في الدواوين الحكومية، ولا في المعاملات التجارية؟
أم ستبقى على ما هي عليه من إهمال، يجعلها في مصاف اللغات الثانية في الوطن، بينما يحتل غيرها المقام الأول.
والأوساط الشعبية على حق حينما تتساءل عن هذه القضية؛ لأنها لم تر لحد الآن ما يشير بتغير الحال، أو بالبداية في إحدى المحاولات الضرورية لتغييرها.
وكفى أن يكون الوضع على هذه الصفة، ما دامت الإدارات المغربية ملأى بآلاف الموظفين الأجانب، وما دمنا محتاجين لكثير من الفنيين الذين لا نستغني عنهم، ومضطرين إلى قبول الذين لا حاجة إليهم، لأن هناك عقودا تربطنا بهم، أو لأن هناك سياسة تستوجب إرضاءهم.
ولكن رجل الشعب لا يستطيع أن يفهم، وأحرى أن يقبل؛ كيف يبقى مضطرا في عهد الاستقلال لأن يتحادث مع الموظفين الذين لهم صلة به، أي الذين يضطرون إلى استقبال العديد من أفراد الأمة كل يوم، لقضاء ما يتوقفون عليه من شؤون يومية، باللغة الأجنبية؟؟
أو البحث عن الترجمان الذي يبلغ غرضه لموظف بلاده، الذي لا يتكلم العربية.
ولنضرب لذلك مثلا لعاملات التليفون؛ هذه الوظيفة الحيوية؛ فإنك تسمع أحيانا من بعض من تجيبك بالفرنسية منهم، معتذرة عن عدم فهمها العربية، التي خاطبتها بها، حتى كأنك في بلاد فرنسا أو بلجيكا.
والأفظع من هذا كله أن تجد المنشورات التي توجهها بعض الوزارات إلى نظارها، محررة بلغة أجنبية، ومعها أحيانا نص الترجمة العربية!!
ولقد رأيت واحدا من القواد وله كاتب عربي يبحث عمن يترجم له الخطاب الموجه إليه من عامله، بينما لم يكن يتوقف في عهد الاحتلال على غير الكاتب العربي؛ لأن المراقب الفرنسي كان يتولى تكليف مترجمه بكتابة ما يريد مخاطبة القائد به بالعربية!
فالمسألة إذن تجاوزت حد الاحتفاظ بالحالة القديمة إلى حد فرنسة ما كان عربيا!!
وطبيعي أن يكون الأمر على هذه الصفة أيضا؛ لأن التعليم الذي حصلنا عليه في إبان الحماية كان باللغة الفرنسية، ولم تكن العربية معه إلا لغة ثانوية، لا تستطيع دروسها أن تخرج في أغلب الأوقات من يستطيعون تحرير الرسائل والتقارير بها.
وإذا كانت الصعوبات التي خلفها العهد البائد ما تزال قائمة، ولها ما يبرر نوعا ما الحالة التي عليها اللغة العربية في الدواوين الحكومية، فليس من الصعب أن يلزم الذين كانوا يستعملون اللغة العربية في إدارتهم بالمحافظة عليها، وتوظيف من يحتاجون إليه لاستعمالها، إذا كانوا يجهلون.
وليس من الصعب كذلك أن يبذل المتولون بعض الجهود لتعريب الدواوين.
ومن الإنصاف أن ننوه بمحاولة وزارة التعليم في هذه الناحية، حيث أنها قررت تعريب الأدوار التحضيرية هذه السنة، كمقدمة لتعريب ما بعدها في الأعوام المقبلة.
فعسى أن تستمر في هذا الاتجاه الحي، وعسى أن يقتدي بها الآخرون، حتى يتم للشعب ما يريد من الاهتمام بلغة البلاد، التي هي وحدها لغتنا القومية والرسمية.
22 أكتوبر 1956.
المصدر:
علال الفاسي؛ كتاب “رأي مواطن”؛ ص (349-350)؛ الطبعة الثانية؛ نشر مؤسسة علال الفاسي (2011).
تقدم إلى الوراء
بقلم: علال الفاسي
مقالة منشورة بتاريخ: 9 ديسمبر 1956
إنه موضوع لا يمكن أن نسكت عنه كلما رأينا مظاهر عدم الاعتناء به.
إن موضوع العربية ومركزها في الدواوين الحكومية والهيئات القضائية.
ولقد قلنا غير ما مرة إننا لا نشك في كون الحكومة معنية به، وأن الضرورة وحدها هي القاضية عليها بعدم السير سريعا في تعريب الإدارة، نظرا لما يشتمل عليه من آلاف الموظفين الأجانب، الذين لا يمكن أن تستغني الدولة عن خدمتهم دفعة واحدة.
والحقيقة أن العذر واضح، والضرورة بينة، ولكن الضرورات يجب أن تقدر بقدرها، ولا تتجاوز موضوعها كما يقول الفقهاء.
ولذلك فإنه لا يمكن أن نسكت متى رأينا إهمال العربية في ناحية لا مبرر لاستعمال الأعجمية فيها، أو بالأحرى لا ضرورة تفرضها.
سأذكر للقارئ الكريم مثالين لا يمكن أن يقعا إلا بسبب تقصير الموظف المغربي، أو معرفة اللغة الأجنبية وحدها، أو أكثر من العربية.
نائب دولة محترم يكتب رسالة في موضوع شرعي لقاضي المحكمة الشرعية باللغة الفرنسية، مع علمه بأن المحكمة الشرعية لا تعرف غير العربية، وأن القاضي بالذات أحد الفقهاء الذين لم يفكروا قط في دراسة لغة أجنبية.
وأنا شخصيا أعرف النائب المحترم، وأعلم أنه يتقن العربية كما يتقن الفرنسية، وأنه سبق له أن كان محاميا مقبولا لدى المحاكم المخزنية والشرعية، ولم تكن تستعمل فيها غير العربية. فما هو الموجب لمخاطبة القاضي الشرعي بكتاب باللغة الفرنسية؟
أما الثانية فقد وقعت في الشمال؛ إذ عين خليفة قائد بإحدى الجهات، ووصله كتاب التعيين باللغة الإسبانية، مع أن المعروف أن المراسيم التي يعين بها القواد والباشوات وخلفاؤهم كلها تكتب باللغة العربية في جميع العهود.
فهل نتقدم إلى الأمام أو إلى الوراء؟
إني أعرف الرئيس الذي أمضى الرسالة بالإسبانية، كما أن الخليفة المرسل إليه الكتاب لا يتقنها.
فأي موجب لاستعمال لغة أجنبية لا يفهمها المخاطب ولا المخاطب؟
هاتان واقعتان صدرتا من موظفين مخلصين، وكنتيجة للاعتماد على بعض الكتاب أو الكاتبات، ولكن لا موجب لهما.
ولذلك فإننا نتوجه إلى العمال ونواب الدولة، طالبين منهم أن يهتموا باللغة العربية، التي هي لغة الدولة الرسمية، ولغة القضاء المغربي، إلا فيما استثنى بصفة مؤقتة.
كما نتوجه بهذه المناسبة إلى رجال الحكومة طالبين منهم المزيد من العناية التي يبذلونها، لإعطاء اللغة الغربية مكانتها الجديرة بها في دولة عربية.
9 ديسمبر 1956.
المصدر:
علال الفاسي؛ كتاب “رأي مواطن”؛ ص (359-360)؛ الطبعة الثانية؛ نشر مؤسسة علال الفاسي (2011).