بقلم: أحمد الحجوي
قال الله تبارك وتعالى في سورة يوسف (الآية 53): {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}.
أجل؛ لقد رُكّبت في الإنسان نزوات ونزعات، وغرائز تدفع به إلى السوء والانحراف، وتؤدي به إلى الجموح نحو البهيمية، وإلى الانغماس في المادة القذرة، والابتعاد عن الروحيات، وعن المثل العليا والقيم الأخلاقية.
فهذه الشهوات والملذات والحاجيات التي تدعو إليها النفس؛ تحاول أن تسيطر على المرء وتجعله ينصرف إليها وحدها، ويخضع لسلطانها، ويزج بنفسه في تيارها الصاخب دون أن يعير أي اهتمام للجانب الروحي فيه، كأنه لم يخلق إلا من المادة، بينما هو مركب من المادة والروح معا، وقبل كل شيء من الروح الخالد الذي يستوجب أكثر عناية وأكثر اهتمام.
نعم؛ إن النفس أمارة بالسوء والشر والظلم، والمنكر، والغدر، والخيانة، والفسوق، والعصيان.
إنها تضغط على المرء بوساوسها وإيحاءاتها ليزيغ عن الصراط المستقيم، وليحيد عن خط النجاة ويتعدى حدود ما أنزل الله؛ فتلك طبيعتها، وذلك ديدانها.
إن الإنسان خلق ضعيفا، تستهويه الشهوات، وتجره بسهولة إلى الانحراف عن الجادة، لكن الباري تعالى وهبه قبسا من نوره ميزه به عن الحيوان؛ ألا وهو العقل.
وما العقل إلا ميزان جعل رهن إشارة الإنسان ليزن به الأمور، ويميز بين الحق والباطل، والخير والشر، وإنه لمن الضروري أن يحسن الإنسان استعمال هذا الميزان، وأن يضبط التصرف في الأمور بفضل عقله، حتى يتميز عن الحيوان الأعجم الذي لم يوهب عقلا والذي لا يفرق بين الشيء وضده.
أجل، وهب الله الإنسان شعاعا من نوره، ونفخ فيه من روحه، وركبه من المادة الطاغية، وطلب منه أن يجعل عقله حكما بينه وبين نفسه في صراعهما العنيف المتسلسل مدى الحياة.
فالعاقل من يرد نفسه عن غيها، ومن يضبط نزواتها ويمنعها من الجموح به نحو المهالك؛ كالدابة التي يمسك بعنانها إمساكا متينا حتى لا تجمح بصاحبها فترديه.
فالصنديد الشجاع هو الذي يغلب نفسه وينتصر عليها لما تحاول أن تدفع به إلى ما لا يرضي الله.
والغافل من يستسلم لنزوات نفسه، وينساق في تيارها العارم، ويرخي لها العنان، فتؤدي به إلى المزالق والكوارث، فذلك هو الضعيف الجبان، ولو كان بطل مصارعة.
قال تعالى في سورة الشمس: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)}.
فهو سبحانه ألهم النفس كلا من الفجور والتقوى، وعرفها حالهما بحيث تميز الرشد من الغي، ويتبين لها الهدى من الضلال.
فقد ربح وفاز من زكى نفسه ونماها حتى بلغت ما هي مستعدة له من الكمال العقلي والعملي، وخسر نفسه وأوقعها في التهلكة من “دساها” أي نقصها حقها بفعل المعاصي ومجانية البر والقربان؛ فإن من سلك سبيل الشر وطاوع داعي الشهوة فقد فعل ما تفعل البهائم، وبذلك يكون قد أخفى عمل القوة العاقلة التي كرمه الله بها، واندرج في عداد الحيوان.
ولا شك أنه لا خيبة أعظم، ولا خسران أكبر؛ من هذا المسخ الذي يجلبه الشخص لنفسه بسوء أعماله.
{فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 – 41]
فالله تعالى استخلف ابن آدم في الأرض ليسعى أن يكون صورة كاملة للفضائل والمثل العليا والقيم الروحية التي أوجدها الله وأحبها، وأحب أن يتصف بها الإنسان، والتي بعث أنبياءه ورسله مبشرين بها وداعين إليها، حتى إن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم حصر دعوته في تتميمها، فقال: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق“.
وقال لما رجع من إحدى الغزوات: “رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر” يعني جهاد النفس.
ولعمري أن جهاد النفس لهو الجهاد الأكبر الذي يتطلب منك اليقظة والحذر، والكفاح المستمر، ففي كل لحظة أنت مضطر لمواجهة أعدائك الأبديين: النفس، والشيطان، والهوى، وفي كل حين أنت مطالب بإرغام النفس وضبطها، وكبت الشهوة وإذلالها والصراخ في وجه الشيطان اللعين الذي يوسوس في صدرك، ويغيرك، ويخدعك.
أليس هذا الجهاد يتطلب صبرا وجلدا وعزيمة فولاذية لا يطيقها إلا ذووا الإيمان الراسخ الذين يلجؤون إلى ربهم في كفاحهم، ويستمدون منه العون والنجدة، ويطرقون بابه في كل لحظة؟
لهذا وجب أن يكون الإنسان على اتصال دائم بمولاه في حياته الدنيا حتى يتغلب على نفسه ويستخدمها في طاعة الله ومرضاته، وتلك هي حكمة مشروعية الصلاة والصيام في الإسلام.
فالصلاة قربة تتيح للمؤمن فرصة الاتصال بربه خمس مرات في اليوم، للوقوف بين يديه خاشعا ضارعا مستنجدا منه القوة والعون في كفاحه ضد قوى الشر والسوء، وسائلا منه تبارك وتعالى أن يهديه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من عباده المؤمنين، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
فهي وقفات يقفها المسلم في يومه للتدبر والعبرة وشحن روحه بطاقة جديدة للتغلب على الزيغ والهوى في مسيرته الطويلة الشاقة، ومصارعته للجانب المادي فيه حتى لا يطغى على الجانب الروحي، وحتى يبقى التوازن متوفرا فيه بين الجانبين؛ فيحافظ الإنسان على شخصيته الحقة الواقعة بين البهيمة والمَلَك، ولا ينزل إلى مستوى الحيوانات العجماء بترك المادة تطغى على روحه وتسيطر عليها.
ذلك هو سر الاتصال الدائم المطلوب ربطه بين المؤمن وربه في حياته الدنيا أثناء صلواته اليومية.
فيا سعادة من متَّنَ هذه الروابط بينه وبين ربه، ويا خسارة من قطع الصلة بينه وبين مولاه، فإنه فقد كل عون وكل نجدة وصار لا يستند إلى ركن، مثله كمثال الريشة الملقاة في العاصفة، تتناقلها الرياح وتتلاعب بها التيارات.
إن شهر الصيام لهو شهر ضبط النفس وكبح جماحها، فكما أننا نمسك فيه عن شهوتي البطن والفرج؛ يجب أن نمسك عن الكذب، والغيبة، والنميمة، والزور، والغش، والخديعة، وإذاية إخواننا في أشخاصهم وأموالهم وأعراضهم، فهذا هو الصوم الحقيقي؛ أي صوم اللسان واليد والرجل والعين والأذن والقلب، ونعوذ بالله من أن ينطبق علينا الحديث الشريف القائل: “كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش“.
فهذا الشهر هو شهر كفاح معنوي بالنسبة للمؤمن الحق: كفاح النفس الأمارة بالسوء وضبط نزواتها وكسر شوكتها ماديا ومعنويا، والرجوع بها إلى الصراط المستقيم، وإلى سبيل الله لا يزيغ عنها إلا هالك.
إن هذا الشهر الكريم هو شهر العدول عن الماديات والإقبال على الروحيات، إنه شهر يرتفع فيه المؤمن الحق إلى درجة الملائكة بإعراضه عن الجانب البهيمي فيه، وتحليقه في جو المعنويات التي تقربه من العلي القدير وتجعله يقوم بأنبل دور في حياته، وهو السعي وراء الفضيلة والمثل العليا والاتصاف بمميزات الإنسانية الحقة التي تجسمت في مُنقِذ البشرية وأسوتها الحسنة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومجّدَ وعظّم.
إنه شهر علاج النفوس وتطبيبها وصقلها تماما بتمام، كتلك الفترة الاستشفائية التي تتخذ مرة في السنة للتداوي من بعض الأمراض المزمنة والتي يسمونها بالفرنسية “cure”؛ إلا أن هذه لتطبيب الأبدان فقط، وشهر رمضان لتطبيب النفوس والأبدان في آن واحد.
إنه شهر يشحذ فيه المؤمن نفسه و”يزكيها” كما قال الله تبارك وتعالى، ويطهرها من الأصداء والأدران التي علقت بها حتى تسمو به إلى مراتب الكمال، فيطمئن إلى معرفة خالقه، ويستعلي برغبائه إلى المطامع الروحية، ويرغب في اللذات الجسمانية فيكون في الغنى شاكرا لا يتناول إلا حقه، وفي الفقر صابرا لا يمد يده إلى ما لغيره، ولا يتجاوز حدود الشرع فيما له من حق وما عليه من واجب.
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 – 30].