بدر الكبرى: الحدث وتفسيره
1-غزوة بدر في شرطها التاريخي
أسس المسلمون “دولة المدينة” في العام الأول للهجرة، وذلك بعد: توحيد الشعب، تحديد الإقليم، حيازة السلطة، وضع الصحيفة، بداية التشريع… إلخ. وفي العام الثاني، دشّن المسلمون بقيادة الرسول العظيم (ص) زمنًا آخر، هو زمن “التنفيذ المتدرج للاستراتيجية” (=التكتيك). في هذا الإطار يجب تعريف “الغزو”، وإلا ضاع (الغزو) في ثنايا الأحداث الصغرى التافهة، واستحالت الزعامة المخططة شخصية عشوائية تعيش على ردّ الفعل، حيث لا معنى للاهتداء بالوحي، ولا معنى للاصطفاء من الخلق. وهكذا، فإن ما يقال عن غزوة بدر مِن أنّها كانت لردّ الحقّ والاعتبار، قولٌ فيه نقاش:
– فإما أن الله (صاحب الأمر) كان يُعِد ما لا يعلمه نبيه (الغزو)، وقد فوجئ النبي (ص) بأمر “الغزو” كما فوجئ به بقية الصحابة، من مهاجرين وأنصارٍ.
– وإما أن النبي (ص) كان يعلم الحاجة، منذ البداية، دون الأمر. فما إن ثبت الأمر، حتى جاء موافقا للحاجة.
فما الحاجة إذن؟ وما الأمر؟
الحاجة كانت إلى “الغزو” أشدّ إلحاحا، والأمر بهذا “الغزو” هو ما كان منتظرا منذ البداية. فالدولة الناشئة في المدينة مهدَّدة، والقبائل العربية تنتظر نتيجة صراع احتدم بمغادرة “الصابئين” (في تعبير مشركي قريش) أرضَ مكّة، وكثيرون هم المسلمون الأسرى لأهاليهم وعشائرهم فيها بعد أن قرروا إخفاء إسلامهم إلى أجل غير مسمى… إلخ؛ هذه هي العوامل التي جعلت من فعل “الغزو” حاجة ملحة، فكان الأمر محررا لهذا الفعل بأسباب أقرب إلى التحريض منها إلى الحقيقة. وبعد أن كانت الأنظار متجهة إلى قافلة أبي سفيان، أصبحت متجهة إلى نصر الدعوة الجديدة بالنفس وقلة العُدّة. وبعد أن كان المحرّك هو “ردّ الاعتبار”، أصبح هو “تنفيذ أمر الله واتباع رسول الله (ص)”. والثابت هو: “لولا الغزو لما بدأ تاريخ جديد”، وهو ما أبقته الروايةُ خالدا يتدارسه الدارسون.
تلك هي “غزوة بدر” التي نمرّ عليها مرور الكرام، نستمدّ منها بعض القيم والأخلاق والعبر، في مناسبتها السنوية (17 من رمضان)، وفي مناسبات أخرى (كذكرى المولد النبوي). والحقيقة، أنها تطلب دراسة جديدة، تنطلق ممّا ذكِر أعلاه، وتتطرّق للمحاور التالية:
أولا؛ حياة مناضل.
ثانيا؛ تأثير الأحلاف القديمة.
ثالثا؛ التعاقد السياسي.
رابعا؛ التمييز بين التصرفات النبوية.
خامسا؛ التحريض الإيديولوجي.
سادسا؛ الإعجاز داخل السنن.
2-حياة مناضل
ليست “السيرة النبوية” سيرة نبي فحسب، وإن كانت النبوة أبرز معطى ظاهرٍ فيها. إنها، بالإضافة إلى ذلك، سيرة مناضل فاق المناضلين في نضالهم وتحمّلهم للأذى. من السرية (في دار الأرقم بن الأرقم)، إلى الضرب والإهانة (رميه بالجزور)، إلى المحاصرة (في شعاب مكة)، إلى الرغبة في الاغتيال (القتل في الفراش)، إلى اللجوء السياسي (الهجرة الأولى والهجرة والثانية)، إلى الحروب العسكرية (التي بدأت بغزوة بدر، وقبلها تشكيل السرايا)، إلى كيد يهود المدينة (التسميم)، إلى التنازلات المؤذية والمهينة (صلح الحديبية)… إلخ؛ كلها أنواع من الأذى، عاشها النبي (ص)، وما “غزوة بدر الكبرى” إلا جزء صغير منها. وهي غزوة من 38 سرية و26 غزوة جهزها وخاضها النبي (ص)، في ظرف عشر سنوات.
وفي “غزوة بدر” نفسها، عاش الرسول العظيم (ص) (وصحابته معه) ما يعيشه المناضلون من: كرّ واستعداد للفرّ، وخوف على النفس والأهل معا، وتفكير في المصالح الخاصة والدعوة الجديدة معا، وتخطيط في معمعان المعارك واحتدام الصراع… إلخ. فكانت حماية النبي (ص) (في عريشه وبإعداد راحلته المسرعة) جوابا على احتمال الهزيمة، وكان التعلق الشديد بعالم الغيب جوابا على مخاوف النفس، وكانت الدعوة الجديدة ناسفة للمصالح القديمة ومستجيبة لمصالح جديدة، وكان التخطيط ضرورة للنجاة وبداية مرحلة جديدة من التاريخ… إلخ.
3-تأثير الأحلاف القديمة
يقول صفي الرحمان المباركفوري: “فلما بلغهم النذير استعدوا سراعا وأوعبوا في الخروج. فلم يتخلّف من كبرائهم إلا أبو لهب. وحشدوا من حولهم من القبائل ولم يتخلف من بطون قريش إلا بنو عدي.
ولما وصل هذا الجيش إلى الجحفة بلغتهم رسالة أبي سفيان يخبرهم بنجاته ويطلب منهم العودة إلى مكة، وهمّ الناس بالرجوع ولكن أبى ذلك أبو جهل استكبارا ونخوة، فلم يرجع إلا بنو زهرة. أشار عليهم بذلك حليفهم ورئيسهم الأخنس بن شريف الثقفي، وكانوا ثلاثمئة”.[1]
تخلفت بنو عدي، ولم تتكبد عناء الخروج في ردع من سوّلت له نفسه التعرض لأبي سفيان. أما بنو زهرة، فقد خرجت لحماية التجارة ومن معها من أبناء قريش. فما كان منها إلا أن عادت إلى مكة وامتنعت عن خوض الحرب، بمجرد أن علمت بنجاة أبي سفيان ومن معه. لم نجد، في حدود علمنا، عدد من تخلّف عن “غزوة بدر” مِن بني عدي. وفيما يخص بني زهرة، فقد ذكرت المصادر تراجع 300 منهم. وهذا عدد قريب من عدد شاهدي بدرٍ من المسلمين (314 تقريبا)، وهو مؤثر لا محالة، وسيكون أكثر تأثيرا لو أضفنا إليه عدد المتخلفين من بني عدي.
فما دام تخلف بني عدي وتراجع بني زهرة عاملين مؤثرين، فلنتساءل إذن:
– ما سبب تخلفهما؟
– وهل لذلك علاقة بالواقع القبلي الذي بُعِث فيه النبي محمد (ص)؟
لقد كان تخلّف عشيرتي بني عدي وبني زهرة من تأثير واقع ما قبل البعثة، وهو واقع الأحلاف التي كانت سائدة في ذلك الزمن. فما كانت بنو عدي لتخرج في مواجهة رجل من بني هاشم (هو محمد (ص) ومعه من بني طالب وبني عبد المطلب أفراد معتبرون)، وقد كان بنو هاشم من شركائهم في “حلف الفضول” (يضم: بني هاشم، بني المطلب، بني أسد، بني زهرة، بني تيم… وربما غيرها). وما كانت بنو زهرة لتدخل في هذه المواجهة بعدما نجت التجارة والأنفس مع أبي سفيان (من طريق الساحل)؛ وقد كان بنو هاشم من شركائهم في حلف تلا “حلفَ الفضول” (حلف الفضول بعدما غادرته بنو أسد ودخلته بنو عدي).[2]
4-التعاقد السياسي
تعاقد النبي (ص) مع المهاجرين على مجموعةِ التزامات، من بينها: أنْ يحموه داخل المدينة لا خارجها. أما خروجهم معه متعرّضين لقافلة أبي سفيان، فقد كان استثناء متفَقا عليه قِبَلا، لذاته لا بغرض خوض حربٍ (غزوة). فلما “علم رسول الله (ص) بخروج أهل مكة، وهو في الطريق، استشار المسلمين، فقام أبو بكر فتكلم فأحسن، ثم قام عمر فتكلّم وأحسن، ثم قام المقداد فقال: والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: “اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون”، ولكن نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك، فأشرق وجه رسول الله (ص) وسر بذلك.
ثم قال: أشيروا علي أيها المسلمون، فقام سعد بن معاذ رئيس الأنصار وقال: كأنك تعرض بنا يا رسول الله فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منّا رجل واحد”.[3]
وبعد أن خرج الرسول (ص) عن المضمون المتعاقَد عليه، أبى إلا أن يعرف رأي الأنصار في ذلك، حرصا منه على احترام العقود والاتفاقات والوفاء بها. فما كان من الأنصار إلا أن أبلوا البلاء الحسن، وما كان منهم إلا أن أبدوا استعدادهم للدفاع عن الدعوة الجديد ونبيها. وكما نجحوا في اختبار الأموال (تحريم الربا وفرض الزكاة)، نجحوا في اختبار الحرب (الغزو).
5-التمييز بين التصرفات النبوية
ليست التصرفات النبوية واحدة، بل منها ما هو تصرف بالبلاغ، ومنها ما هو بالإمامة، وما هو بالفتوى، وما هو بالقضاء، وما هو تصرف تشريعي خاص. وكل هذه تشريعية، تنبني على نصوص الشريعة في وجه من الأوجه. وهناك تصرفات أخرى غير تشريعية، خِلقية وعرفية واجتهادية ودنيوية وترشيدية، لا تنبني على أصل مباشرة، ولكن نصوص الشريعة مستوعبة لها بشكل عام وغير مباشر.[4]
لقد ظهر هذا التمييز، بين التصرفات النبوية، في مواطن عدة من سيرة الرسول العظيم (ص). فما حادثة “تأبير النخل”، وما تنازل الحديبية، وما منع ادخار لحوم الأضاحي، وما الامتناع عن أكل الضب… إلخ؛ ما كل ذلك عنا ببعيد. والشاهد عندنا في هذا المقال، هو تصرف النبي (ص) بالحرب. فمن الغزو ما كان من أمر الوحي، ومنه ما كان مما تفرضه المتغيرات التاريخية، إلا أن في التخطيط وتنظيم الجنْد تصرفا نبويا دنيويا لا تخطئه عين اللبيب. ومن ذلك أمره بالنزول قريبا من العدوة الدنيا، قبل أن يسأله الحباب بن المنذر: “أهو منزل أنزلك الله إياه، يا رسول الله، أم هي الحرب والمكيدة؟”، قال: “بل هي الحرب والمكيدة”، فردّ الحباب: “فإنه ليس بمنزل”. ولأن هذا التصرف كان من تصرفات الدنيا، فقد وافق الرسول (ص) الحبابَ على رأيه.
يقول صفي الرحمان المباركفوري: “ثم تقدّم إلى بدر، فوصلها في نفس الليلة التي وصل فيها المشركون فنزل في داخل ميدان بدر قريبا من العدوة الدنيا، فأشار عليه الحباب بن منذر أن يتقدم فينزل على أقرب ماء من العدو حتى يصنع المسلمون حياضا يجمعون فيها الماء لأنفسهم، ويغورون الآبار فيبقى العدو ولا ماء له، ففعل”.[5]
6-التحريض الإيديولوجي
وقد تعددت مواطن هذا التحريض في مختلف مراحل المعركة، ومنها:
– تبشيره بمصارع المشركين بأسمائهم في ساحة المعركة، ولا يخفى على القرّاء ما لهذا الفعل من تقوية للجند وإكسابهم للثقة في نفوسهم.
قوله (ص): “هذا مصرع فلان، هذا مصرع فلان، غدا إن شاء الله”.
– تبشير من مات من المسلمين في المعركة بدخول الجنة (الشهادة).
قوله (ص): “والذي نفس بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة”.
– الدعاء بالجهر على المشركين وبالنصر للمسلمين، حتى ترتفع معنوياتهم ويدخلوا المعركة بثقة في النفس.
قوله (ص): “اللهم هذه قريش، قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك. اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة”.
– الدعاء الخاضع في العريش[6]، ما لتلك الصورة من تأثير على أبي بكر الصديق (ض)، ومن خلاله على بقية المسلمين المشاركين في المعركة.
قوله (ص): “أبشر أبا بكر، أتاك نصر الله”.
– التلفظ بعبارات مثبتة طيلة المعركة، حتى يتحقق الصمود والتفكير في الانتصار بدل الهزيمة.
ومن ذلك، قوله (ص): “سيهزم الجمع ويولون الدبر” (آية قرآنية)، وقوله: “شاهت الوجوه” (وما رافقها من رمي للمشركين بحفنة من الحصباء، في دلالة رمزية على أن القلة ستهزم الكثرة، وقلة العتاد ستهزم كثرته بتدخل عوامل أخرى من قبيل العقيدة الموحدة وحسن التدبير).[7]
7-الإعجاز داخل السنن: في سبيل وعي سنني (بقوانين الطبيعة وقواعد التاريخ)
نزلت الملائكة لتعين المسلمين في معركتهم ضد المشركين، “جبريل آخذ بعنان فرسه”، “والملائكة يضربون فوق الأعناق ومن المشركين كل بنان”، “فكان يندر رأس الرجل لا يدري من ضربه، وتندر يد الرجل لا يدري من قطعها، حتى نزلت الهزيمة بالمشركين فلاذوا بالفرار”. [8]
الإعجاز، هنا، أن يشارك في المعركة غير بشر، لتنتصر القلة على الكثرة. فما وجه استدعاء السنن في هذا الإعجاز؟ حيث كان الإعجاز، كانت القواعد متجاوزة. هذا حاصل لا محالة، ولكنه حاصل في إطار سنن أخرى: العدد (ألف من المشركين) بالعدد (ألف من الملائكة محضرين)، والوسيلة (المبارزة العربية المعهودة بالسيوف والرماح والنبال) بالوسيلة (الضرب فوق الأعناق وكل بنان)، وكل واقع في ميدان المعركة (فالجغرافيا/ المكان تسع الجميع)، ومحدَّد بالزمن (الحيز الزمني للمعركة)، ومسبوق بشروط (الهجرة بعدما ضاقت السبل بالدعوة الجديدة في مكة)… إلخ.
وأعمت حفنة من الحصباء أعين ألف من الجند، إذ “أخذ النبي (ص) حفنة من الحصباء، ورمى بها وجوه المشركين، وهو يقول: شاهت الوجوه. فما من مشرك إلا وأصاب عينيه ومنخريه من تلك الحفنة”. [9]
والإعجاز، هنا، أنْ أعمت حفنة حصباء صغيرة جموعا كبيرة. ولم يكن ليتم ذلك إلا في إطار سنن أخرى: الحصباء تعمي، والرمي حاضر، وهي تنتقل في الزمن والمكان وبسرعة محددة… إلخ.
_______________________________________________
1- صفي الرحمان المباركفوري، روضة الأنوار في سيرة النبي المختار، مكتبة الملك فهد الوطنية، الطبعة الأولى، 2003، ص 172.
2- مونتغمري واط، محمد في مكة، ترجمة عبد الرحمان الشيخ/ حسن عيسى، مراجعة أحمد شلبي، اتصالات سبو، الطبعة الثانية، 2014، 20-21.
3- صفي الرحمان المباركفوري، نفس المرجع السابق، بتصرف، ص 172-173.
4- راجع: “المنهج الوسط في التعامل مع السنة النبوية” و”التصرفات النبوية بالإمامة”، سعد الدين العثماني.
5- صفي الرحمان المباركفوري، نفس المرجع السابق، ص 173.
6- بناء العريش للرسول العظيم (ص)، وتجهيز ناقة مسرعة تنقله على وجه السرعة إلى المدينة في حالة الانهزام؛ كل ذلك يدل على شدة التعلق بالزعيم السياسي والرغبة في فدائه ودعوتَه بالمال والنفس.
7- هذه المأثورات ذكرتها أغلب كتب السيرة التي اطلعنا عليها، متقدمة (سيرة ابن هشام)، ومتأخرة (صفي الرحمان المباركفوري، مصطفى السباعي، محمد سعيد رمضان البوطي… إلخ). ويختلف التحليل والتفسير من كاتب لآخر، حسب تطور النضج البشري، إلى أن يقف التطور بتوقف الزمن.