لا أثقل على الفطرة السوية من الأفعال الهجينة، والأقوال النابية، والتصرفات الشاذة المستقبحة. ولا أشد على إنسان الحداثة، لا ذلك المسهم في تكريس سماتها والتأصيل لمبادئها، إنما ذلك المفروضة عليه قوانينها، الرافض لسجونها؛ لا أثقل عليه من عادات دخيلة، وأنماط عيش تمجها جبلته وتمقتها طبيعته، ومن فكر مستهتر بالقيم الروحية، يلح عليه في إيجاد مخرج من فخاخ العقلانية.
فأين المفر، وكل ما حوله ينبئ عن تحولات وعن تصدعات وعن شروخ في كل المنظومة المجتمعية بدءا بالأخلاق وانتهاء بها؟
ما الذي سيجعله يستعيد ثقته في عصر أهم سمات مشكلاته : “غياب المرجعية” و”غياب المسوغات” و” فقدان الهوية” و”عزلة الأخلاق” و”المعرفة المعلولة” و”موت السرديات الكبرى: التقدم والتنوير والثورة …” و”سيادة السرديات الصغيرة المتمحورة حول الاهتمام بالذات ورعايتها ” و”التمتع الفردي بالسلع”، و”التأمين الفردي للحياة” في مبعد عن أي “مسعى جماعي لتأمين الحياة الجيدة والخيرة للجميع” و”أفول الواجب” و”الشعور بالاغتراب” و”القطيعة بين المبدأ والسلوك” وغيرها من المشاكل الأخلاقية والسلوكية التي أفرزتها الحداثة، والتي جعلت الإنسان يتخبط بشكل مستمر مأزوم تتجدد فيه العقبات، وتتنوع فيه الأزمات؟
كيف يتخلص من ورطته؟ وكيف يستعيد ملامحه ويجعل الحياة تستعيد حيويتها ونظامها؟
هل هو في حاجة إلى الاستناد إلى الدين وإلى الميتافيزيقا لأجل تأسيس منظومة أخلاقية تنظم حياته؟ أم أن العقل والرغبة كفيلان بإنشاء ما به يستجلب الخير ويدفع الأذى؟
هل العقل كفيل لوحده بإجابة كل مسائل فلسفة الأخلاق ولا سيما تفاصيلها؟
إننا أمام أسئلة؛ الجواب عنها يستدعي الرجوع إلى تاريخ الاتجاهات الفلسفية المتعددة في مقاربة مسألة القيمة والأخلاق، بدءا من العصر اليوناني ووصولا إلى الفلسفة المعاصرة مرورا بكانط وسبينوزا، دون إغفال العروج على المعتزلة والأشاعرة وموقفهما المتباين من دور العقل والشرع في إدراك الحسن والقبح، إلا أن هذا ليس هو الهدف الأساسي لهذه الورقة، بل الذي يعنينا؛ ليس الانشغال البارد المهووس بالتأريخية في رصد هذه المسألة من خلال التحقيب وجرد السمات، و حصر الملامح والاكتفاء بالوصفية التي لا تساعد على اتخاذ موقف صريح منها، وإنما يعنينا أن نبدأ من حيث انتهى هذا التأريخ، وأن ننطلق من الخلاصات لأجل التأصيل لما يجب الحرص عليه لكيلا نبقى عالقين؛ في سؤال الأخلاق؛ في المقدمات. فمقاربتنا لهذا الموضوع من منطلق إسلامي يجعلنا نخلص، منذ البدء، إلى أن الإنسان، باعتبار محدودية المستقلات العقلية فيما يخص الشرع والتزاحم، وحاجتها الماسة إلى التتميم والتفصيل الذي لا يمكنها استمداده إلا من الشريعة؛ في حاجة إلى المعرفة الدينية وإلى مصدرها الوحياني لتتميم نقائصه، ورفده بالمرجعية التي تحدد بدقة نوازع الخير والشر، وتزوده بمديات تساعده على الانتظام وفق المطلوب منه شرعا، وبالقيم التي تنظم الحياة الإنسانية باعتبار مكانتها المحورية ودورها الكبير في تحديد نظام الحاجات ومستوى إشباعها.
هذه الخلاصة ستجعلنا نتجاوز البحث في الأدلة عن حاجة الإنسان إلى الدين بالضرورة؛ إلى تقرير ذلك، ومن ثم ستيسر علينا الانطلاق لرصد المسوغات التي جعلت من مسألة الأخلاق موضوعا مركزيا وأساسيا في وقت صارت فيه القيم ترفا بل عبئا على حرية وانطلاق الإنسان الحداثي، وقيدا يعطل أجرأة أجندات الحداثة ومشاريعها التحديثية، لنجد أنفسنا أمام تداعيات هذه الحداثة ، والتي كان لها دور كبير في جعل الإنسان غير مترابط العناصر سواء على مستوى المعرفة أو المجتمع. إنسان فرضت عليه أجنداتها أن يتعاقد مع الرؤية الحديثة للعالم وللأحداث من أجل إنجاح مشروعها، ليجد نفسه، وهو يتفاعل مع المستجدات، مفرغا من معاني القيمة ومن مضامينها الشعورية، مبعدا عن التفاعل الوجداني، غارقا في التحليل العقلي والتأويل العملي اللذين يفصلان القيمة عن أصولها الحيوية بسبب هذه الرؤية العلمية للعالم.
أزمة القيم هي قبل كل شيء أزمة الرؤية الإنسانية للإله وللكون وللإنسان في بحثها عن السعادة المنشودة، وانشطارها في مقاربة أنساقها في تدابر وتنافر وتباين، مما يجعل النظر الفلسفي الحديث في الأخلاق حلبة صراع بين المذاهب التي تؤصل له، أو تلك التي تجحده أو تشكك فيه، بل بؤرة توتر بين مختلف المعاني والأسماء التي يطلقها كل مذهب على الأخلاق. ولعل السبب الكامن وراء هذا الزخم وهذا التباين؛ من جهة؛ أن النظرة إلى العالم لم تعد موحدة فتجمع كل الجوانب الإنسانية في خيط ناظم يرتبها ضمن سلم القيم، ومن جهة؛ اعتبار الأخلاق رتبة واحدة لا تعدد فيها وتقسيمها إلى ” أخلاق نظرية” و”أخلاق تطبيقية”، ومن جهة أخرى؛ الاحتكام فيها إلى الرغبة التي لا ترسو على حال ولا تخضع لقانون أو رادع . ومن جانب آخر؛ اختزال رتبة القيمة وفصلها عن منابعها الحيوية بسبب الرؤية العلمية للعالم، وبسبب اختزال مقاربتها إما في المعنويات أو في اللسانيات دون نسبتها إلى القطعيات.
وبالموازاة مع كل هذا، تكفلت العقلنة بإفراغ القيم من دفقها الروحي والوجداني، وصلبتها على أعواد العقل والعلم، غافلة عن أن موضوع القيمة الحقيقي؛ ليس العقل ولا العلم وإنما الروح والوجدان. فأسكنتها بذلك في المنفعية المتغيّرة، واختزلتها في دوافع نفسية لا واعية. فصار الخطاب التخليقي الحداثي خطابا يتأرجح بين دفع الأذى الذي أفرزته الحداثة بذاتها، وبين تعزيز الإرادة وحرية الاختيارالتي تصادم مبادئ العقيدة الدينية باعتبارسمة قضاياها المتمثلة في الإلزام وتحديد الغايات القصوى لوجود الإنسان، وكذا بيان سُلّم مراتب الأولويات والترجيحات في موارد التزاحم والتنافي في أفعال الإنسان المختلفة، مفرغا الآدمي بذلك من مقوماته الروحانية، محاولا إيجاد وسيلة لإمكانية إقامة فلسفة أخلاقية بعيدًا عن الأساس الميتافيزيقي والديني الملزم، المتمثّل في المسائل الأساسية: وجود الله والحرية الإنسانية وخلود النفس.
إن المشروع الذي ينبغي الالتفاف حوله في سؤال الأخلاق؛ ونحن على مشارف التحولات المهولة التي يعرفها وسيعرفها العالم فيما يخص النظام الأخلاقي الجديد والذي قد ظهرت إرهاصاته بما لا يترك مجالا للأمل في منظومة مجتمعية سوية ما لم تتكاتف الجهود لوقف النزيف الأخلاقي؛ (وليس هذا إرجاف ولا نظرة سوداء للمستقبل وإنما هي واقعية مبنية على مشاهدات لا يخطئها إلا أعمى بصيرة ) أن نعيد للوجود الإنساني بوصلته وهويته بربطه بالوجدانيات، وبمقاربة سؤال القيم من خلال دمج مبادئ الرقابة والوازع الديني والجزاء الأخروي، وبتبني مشاريع تخليقية ومنظومات قيم مرجعية شاملة ومتكاملة ذات أصول فلسفية ونظرية واضحة، وتصور شمولي، ومنهج علمي متكامل، ومرجعية نصية تبرز تجلياتها العملية من السيرة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم، تنظم علاقة الإنسان بربه وبنفسه وبمجتمعه. وأن نستأنف النظر في آليات البحث، وفي السبل المنهجية الحديثة كضرورة ملحة وليس كرهانات، فنستعين بها لتعزيز القيم والأخلاق، برصد الظواهر المستهجنة وتحليلها والخلوص إلى ما ينبغي فعله في مواجهة كل ظاهرة على حدة. وأن ننطلق في مقاربة الإشكالات الراهنة؛ من المعنى التوجيهي والتفعيلي للقيمة، ومن معناها التأسيسي الكلي في عصر انفصلت فيه الأخلاق عن الحياة، وسادت النرجسية الذاتية، وتسيد البحث عن اللذة وعن الحرية المطلقة، وفقدت فيه القيم، حتى منها تلك المرتبطة بالإيديولوجيات وبوعود العلمانية والحداثة، مشروعيتها ومصداقيتها. وأن نجدد سؤال القيمة الأخلاقية كي تستعيد دورها الابستمولوجي في كل مجالات الحياة من سلوك وتعاملات وفنون وثقافة وعلوم وسياسة واقتصاد وفكر وغيرها.