الانتقائية في التأريخ للفلسفة (ول ديورانت نموذجا)
التدليس من أخلاق الرأسمالية
بقلم: محمد زاوي
1-انتقائية غير بريئة:
لا يمكن أن نعتبر انتقائية ول ديورانت خطأ معرفيا فحسب، وإنما هي تدليس معرفي بالغ الخطورة. فكيف يؤرخ ديورانت للفلاسفة وفلسفاتهم دون أن يخصص فصولا بعينها لكل من: ابن رشد الحفيد، وديكارت، وهيجل،وفيورباخ، وماركس؟
وهل هذا الإغفال يعبر عن عدم إدراك ديورانت للجوهر في تطور الفكر الفلسفي أم عن رغبة أخرى في الإجهاز على المسار الحقيقي لهذا الفكر؟
إن الراجح لدينا هو رغبته الثانية.
وإلا فكيف استثنى من انتقائه الخمسة المذكورين أعلاه دون غيرهم ممن احتفل بهم احتفالا واضحا؟
ابن رشد أستاذ لابن ميمون في جزئية عرضية، وسبينوزا تلميذ للأخير في معرفتها (الجزئية العرضية).
ديكارت أستاذ لسبينوزا في: التفسير الرياضي، وتقسيم الوجود (إلى مادة وعقل)، وأسبقية الوعي.
هذا هو ديكارت، وتلك هي فلسفته (عند ول ديورانت).
هيجل غامض، لا يجرد الأشياء بعيدا عن علاقاتها الداخلية، ولا يرى العلاقات إلا علاقات تناقض.
أما فيورباخ وماركس فلا حس لهما يذكر في كتاب رائد الكتاب البورجوازيين الذين يرجون للرأسمالية عمرا مديدا.
أما حديث ديورانت عن كل من: سقراط وأفلاطون وأرسطو وتوما الأكويني وسبينوزا وكانط، فقد كان حديثا عشوائيا يضرب هنا وهناك دون تحديد الجوهر في فلسفة كل فيلسوف.
2-من الأسطورة إلى المثالية والمادية:
يذكر ول ديورانت الفلاسفة تباعا، ولا يشير إلى الهم المشترك بينهم. يذكرهم تباعا، وكأن فلسفاتهم جزر لا تكاد الواحدة منها تتصل بالأخرى.
لقد غاب عن ذهنه أن “هم كل فلسفة هو اكتشاف الجوهر المشترك للكائنات” (1).
لقد غاب عن ذهنه أن الرحلة بدأت مع قطيعة أحدثتها الفلسفة مع الأسطورة، لتنقسم الفلسفة بذلك إلى اتجاهين عريضين هما:
الفلسفة المثالية (سقراط وأفلاطون)، والفلسفة المادية (أبيقور وديمقريط). (2)
لا علاقة لول ديورانت بكل هذا النقاش، ولذلك كان كل همه أن يستعرض المعلومات والأفكار بشكل انتقائي عشوائي مبعثر.
التساؤل بإفراط، التركيز على تحديد المعاني بدقة، والاهتمام بالفضيلة وأفضل دولة، ورفض تعدد الآلهة وديمقراطية الغوغاء… هذه هي المعالم الكبرى لفلسفة سقراط في نظر ول ديورانت. (3)
صورة الجمهورية، وتصور الحكم العادل، وقدرة الإنسان على تصور عالم أفضل، ووضع المتغير في إطار ثابت، والقول بصعوبة تحقق نموذج الجمهورية… هذه هي فلسفة أفلاطون عند صاحب “قصة الفلسفة”. (4)
لا أحد ينكر قول كل من سقراط وأفلاطون بكل ما ذكره ول ديورانت، ولكن هل كل ذلك هو جوهر فلسفتهما المثالية؟
لن يصدق كل باحث –يعرف أن لكل فلسفة سياقها التاريخي- هذا الادعاء، وذلك لأن الجوهر في فلسفتهما هو المثالية عينها.
فما المثالية إذن؟
المثالية هي: “الفصل بين عالم الإدراك العقلي وعالم الإحساس الحسي”، وبالتالي القول بأن “جوهر الأشياء لا ينتمي إلى الأشياء ذاتها، ولكن إلى عالم خارج عنها هو عالم الفكر”. (5)
إن نقيض الفلسفة المثالية هي فلسفة أخرى مادية، وهو ما لم يتكبد ول ديورانت عناء الوقوف عنده.
3-توفيق أرسطو وفوضى ول ديورانت:
إن عدم إدراك ول ديورانت للجوهر في الفلسفة المثالية جعله يغفل الفلسفة المادية، وينتقل إلى أرسطو كأن شيئا لم يقع.
والحقيقة أن أرسطو هو الجواب التوفيقي الواضح عن تناقضات كل من الفلسفتين. (6)
تقول المثالية بانتماء الجوهر إلى الفكر وحده، في حين تقول المادية بانعدام وجود أي جوهر.
الأولى تصطدم بالواقع، والثانية تصطدم بالفكر.
فيجيب أرسطو على أزمتهما معا بقوله: “الجوهر يمثل للكائن، ما تمثله الصورة بالنسبة للمادة”. (7)
وهذا هو توفيق أرسطو، حيث الاعتراف بالجوهر والكائن معا، أي بالصورة والمادة معا.
هل أشار ول ديورانت لشيء من هذا في كتابه الضخم؟
لا شيء من ذلك حصل، فاستحالت فلسفة أرسطو: اهتماما بالأحياء، ووضعا للفلك، وقياسا منطقيا، وتنظيما للعلم، ومواصفات رجل مثالي، وتصورا غامضا لله…
وكل ذلك صحيح، ولكنه لا يحدد الجوهر في فلسفة أرسطو. (8)
4-في تهميش التأويل الرشدي لأرسطو:
العيب في فلسفة أرسطو هو أنه ميز بين الصورة (=الجوهر) والمادة (=الكائن)، إذ اعتبر الأولى باقية والثانية فانية.
وهذه فلسفة توفيقية قابلة لأن تأول تأويلين: تأويلا مثاليا، وتأويلا ماديا.
هكذا قال ابن رشد الحفيد، فنزع إلى تأويل تلك الفلسفة تأويلا ماديا. (9)
ابن رشد، هذا العقل العربي الإسلامي العبقري، هذا العقل هو ما احتقره ول ديورانت كما احتقره كثيرون.
فهل هي نزعة غربية ضد العروبة؟ أم هي نزعة مثالية ضد المادية؟
ابن رشد عربي، وقد يثير تعصب بعض الغربيين المتعصبين ضده.
ولكن، كيف يكون ابن رشد ماديا وهو فقيه مسلم اهتم بمختلف المباحث الفقهية والعقدية اهتمام العالم المؤمن؟
إن ابن رشد كان يميز بين عالمين: عالم الغيب وعالم الشهادة، وبالتالي بين مجالين: العقيدة (مجال النقل) والفلسفة (مجال العقل).
ولم يكن يظن أن كلا منهما يفسد الآخر كما يظن كثيرون اليوم، بل كان يعتقد أن كلا منهما له مجاله الخاص: العقيدة للغيب، والفلسفة للشهادة. (10)
إن مناقشة ابن رشد لأرسطو هي من قبيل حديثه في عالم الشهادة، ولذلك كان نقده له ماديا ملموسا؛ فنبهه إلى أن الفصل بين الصورة والمادة أمر مستحيل، ورفض أن تكون المادة فانية دون أن تفنى الصورة.
ما رفضه ابن رشد هو عينه ما تمسك به توما الأكويني، فاستقبلته الكنيسة بالأحضان متداعية على فلسفة الأول. (11)
قد يظن بعضهم أن توما الأكويني رجل متدين ويدافع عن الغيب، في حين يمقت ابن رشد كل ذلك.
وهذا أمر غير صحيح، لأن ابن رشد يرفض تفسير قوانين الطبيعة بالغيب أكثر من أي شيء آخر.
فلا هو ينكر الغيب، ولا هو يفسر حركة الكواكب بتدخل الملائكة كما فعل توما الأكويني.
لقد كان ابن رشد أقرب إلى مقاصد الدين أكثر من الأكويني، فشتان بين من يريد رفع السحر عن العقول لتفهم ما حولها وبين من يريد طمسها باسم الغيب.
الأول يشكل خطرا على إيديولوجيا الكنيسة، والثاني يدافع عنها في سبيل عرقلة تطور قوى الإنتاج. فبتطورها تكون علاقات الإنتاج الإقطاعية في خطر، ومن ثم تكون الكنيسة كذلك.
لا يمكن أن يكون الله ضد اكتشاف القوانين التي وضعها في الكون، وبالتالي فكل قول بتحريم ذات الاكتشاف ما هو إلا تأويل غير بريء لدين الله.
هل يعقل أن يغفل ول ديورانت عقلا كابن رشد؟
أليس هذا إلغاء مقصودا تحكمه نزعة مثالية بورجوازية؟
5-سبينوزا وديكارت والفلسفة المادية الفرنسية: التحولات النظرية والمنهج المادي الجدلي.
ما لم يكن مساعدا لابن رشد هو عيشه في عصر لم تتشكل فيه البورجوازية بعد، وذلك سبب من أسباب عبقريته.
ما لم يسعف ابن رشد، هو نفسه ما أسعف ديكارت ليتجاوز تردد صاحب “بداية المجتهد ونهاية المقتصد”.
فقد كان ابن رشد من دعاة التمييز بين العقل والنقل، ولكنه في نظر ديكارت بقي مترددا بينهما.
لم يكن تردد ابن رشد وليد عقله فقط، وإنما كان وليد عصره ومحيطه وبيئته.
أما ديكارت فقد عاش في عصر بورجوازية صاعدة، وهي بورجوازية في حاجة إلى تطوير قوى إنتاجها.
لن تتصارع مع الكنيسة بشكل محتدم، ولكنها ستدعو إلى التمييز بين الغيب والشهادة بشكل صارم غير متردد.
لله خلق الكون، وللإنسان اكتشاف قوانين هذا الكون. (12)
هذا هو ديكارت الذي لم يهتم به ول ديورانت كما اهتم بغيره، وهذا هو دوره الذي أهمله صاحبنا هذا بشكل غير مفهوم.
إله سبينوزا الطبيعة، فتجاوز بذلك ديكارت.
تقدمت البورجوازية الهولندية على نظيرتها الفرنسية، فانعكس ذلك على فكر سبينوزا.
شتان بين بورجوازيتين: بورجوازية فرنسية صاعدة تريد أن تطور قوى الإنتاج دون أن تتصارع مع الإقطاع، وأخرى هولندية نمت إلى درجة أن أصبحت تطالب بانتزاع بعض المكاسب من الإقطاع.
وبالتالي، شتان بين فكرين: فكر ديكارتي يتقاسم المجال مع الكنيسة، وفكر سبينوزي يتهجم عليها (الكنيسة). (13)
لم يكن سبينوزا بعيدا عن النقد، ولكنه تعرض له بمجرد أن ظهر الفكر المادي الفرنسي.
هذا الفكر الذي كان بمثابة انعكاس لحاجة البورجوازية الفرنسية إلى تحطيم علاقات الإنتاج الإقطاعية، فكان أكثر تهجما وضربا لدين الكنيسة من فكر سبينوزا. (14)
لقد بقي سبينوزا، في نص ول ديورانت، غارقا في: تأويلات الحاخامات اليهود، وصراعه مع بعضهم، وتأثره بمنهج ديكارت في بعض الجزئيات (التفسير الرياضي، عنصرا العالم، أسبقية الوعي)، ورغبته في التوحيد بين اليهودية والمسيحية، وبعض مواقفه في الدين والأخلاق والسياسة والدولة… (15)
لقد بقي غارقا في كل ذلك، وكأن الجوهر في فلسفته منعدم.
6-كانط وفتنة التناقض:
بقي الفكر المادي الفرنسي، ومعه الفكر المادي الإنجليزي، ينقد بعضُه بعضا.
واستمر الأمر كذلك إلى أن جاء إيمانويل كانط واصفا كل من ادعى الكشف عن الجوهر بالدغمائية، داعيا إلى فلسفة نقدية تعرض كل الآراء المتناقضة وتقول باستحالة أي جوهر. (16)
هذا هو كانط جوهرِه (كانط كما قرأه عبد السلام الموذن).
أما كانط الفوضى والانتقائية (كانط كما قرأه ول ديورانت)، فهو: الرافض لمعرفة الحواس، المؤمن بمعرفة الفكر وحده، المنقذ للدين والعلم معا بحل مشاكل الميتافيزيقا… (17)
7-هيجل، فيورباخ، ثم ماركس: الثلاثي الذي فضح ول ديورانت.
عجز كانط عن فهم “وحدة التناقض”، وذلك ما استوعبه هيجل بدقة.
عجز الفلاسفة الماديون الفرنسيون عن التوصل إلى “العامل المتسامي”، وذلك ما توصل إليه هيجل بشكل مثالي. (18)
نقد فيورباخ هيجل بدعوى أنه مثالي، يفسر كل شيء بالفكرة المطلقة.
فنسي فيورباخ أن تفسير كل شيء بالإنسان مثالية من نوع آخر، وهي لا تعدو أن تكون إلا مادية ميكانيكية غير جدلية وغير اجتماعية. (19)
لم يهتم ول ديورانت بهيجل كثيرا، فأشار فقط بشكل باهت إلى: نظريات منطقه، وقوله بالتناقض (ظهرت هذه الفكرة غامضة في نص ديورانت)، وغموضه، ومحافظته. (20)
أهذا هو هيجل حقا؟
فكيف يكون غامضا من عبر عن المعاني بأمثلة الألمان؟ (21)
وكيف يكون محافظا من أحدث ثورة فكرية في المعرفة الإنسانية؟
أما منطق هيجل وقوله بالتناقض، فقد اعتدى عليهما ديورانت وشوههما قبل أن يفعل أي شيء آخر.
لقد أغرته (ديورانت) مثالية الجدل الهيجلي، فكتب عنها.
وفي نفس الوقت مكر به الجدل، ففر هاربا إلى ما يحمي مصالحه ومصالح البورجوازية.
قلت: لم يهتم ديورانت بهيجل كما اهتم بغيره.
أما فيورباخ، فهو من انشغل عنه صاحبنا بمن دونه.
النقد النهائي، والثورة الحقيقية، هي تلك التي أحدثها ماركس في نظرية المعرفة.
نقد ماركس مثالية الجدل الهيجلي، ومن ثم كان رفضه لأنْ “تتم موضوعية الجوهر الجدلي داخل الفكرة المطلقة”.
وبنفس الحدة، نقد ماركس مثالية فيورباخ. ومن ثم نقد قول هذا الأخير “بتجرد الإنسان عن علاقاته الاجتماعية. (22)
ومما نقده ماركس كذلك، انطلاق فلاسفة كثيرين من التعبيرات إلى الجوهر. (23)
ومن هنا جاء استنتاجه الأخير:
– الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي (وليس العكس، أما التأثر فهو متبادل). (نقد هيجل) (24)
– الإنسان هو مجموع علاقاته الاجتماعية وليس متجردا عنها. (نقد فيورباخ)
– البحث الحقيقي الذي يبحث عن الجوهر قبل أن ينشغل بكل ما هو عرضي وجانبي. (نقد فرويد وسارتر وفوكو… وغيرهم)
تجاوَز ديورانت ماركس بخسّة واضحة لم يعرف تاريخ الفكر الفلسفي مثلها، فهرع إلى كل من: برجسون، وكروتشي، وبرتراند راسل، وسنتيانا، وجيمس، وديوي.
أين هو لينين؟ وأين هو بليخانوف؟ وأين هم رواد الاشتراكية الطوباوية؟ وأين هو تروتسكي؟ وأين هو لوكاتش؟ وأين هو ألتوسير؟ وأين هو اليسار الهيجلي؟ وأين هو إيريك فايل؟ وأين هو ماكيافيل؟ وأين هو ابن خلدون؟ وأين هو الغزالي؟
أين هم كل هؤلاء، وغيرهم، في ظل هذا الركام من المعلومات المبعثرة بقصد؟
8-ملحوظة:
قد يقول قائل: “وما علاقة كل هذا بفلسفة الأخلاق؟”.
ونحن نجيبه:
– لكل فلسفة سياق تاريخي، وبالتالي لكل فلسفة أخلاقية سياقها التاريخي أيضا.
– الظلم والتدليس من أخلاق الرأسمالية، وهو نفسه ما حكم ول ديورانت في نصه المدروس في هذه المقالة.
– الوجود الاجتماعي يحدد الفكر والفلسفة، فما بالك بالعمل.
– ليست هناك أخلاق مثالية، بل إن الناس يتخلقون ويرون المثل على ضوء واقهم وأوضاعهم الاجتماعية.
الهوامش:
(1):عبد السلام الموذن، الطبقة العاملة الحديثة والنظرية الماركسية، عيون المقالات، الطبعة الأولى، 1990، ص 97.
(2):نفسه، ص 96-99.
(3):ول ديرانت، قصة الفلسفة، مكتبة المعارف، الطبعة السادسة، 1988، ص 12.
(4):نفسه، من ص 58 إلى ص 64.
(5):عبد السلام الموذن، نفس المرجع السابق، ص 97-98.
(6):نفسه، ص 99.
(7):نفسه، ص 99.
(8):ول ديورانت، نفس المرجع السابق، الجزء المخصص لأرسطو.
(9):عبد السلام الموذن، نفس المرجع السابق، ص 100-102.
(10):راجع “نحن والتراث” لمحمد عابد الجابري.
(11):عبد السلام الموذن، نفس المرجع السابق، ص 102.
(12):نفسه، ص 105-106.
(13):نفسه، ص 107.
(14):نفسه، ص 110.
(15):ول ديورانت، نفس المرجع السابق، الجزء المخصص لسبينوزا.
(16):عبد السلام الموذن، نفس المرجع السابق، من ص 111 إلى ص 113.
(17):ول ديورانت، نفس المرجع السابق، الجزء المخصص لكانط.
(18):عبد السلام الموذن، نفس المرجع السابق، من ص 114 إلى ص 120.
(19):نفسه، من ص 125 إلى ص 127.
(20):ول ديورانت، نفس المرجع السابق، من ص 377 إلى ص 382.
(21):وجدت هذا في بعض فقرات جورج بوليتزر من كتابه “المادية والمثالية”.
(22):عبد السلام الموذن، ص 128.
(23):نفسه، ص 140-141.
(24):نفسه، ص 142.