اللغة العربية والحضارة
بقلم: مالك بن نبي
منذ عدة أيام، كنت في أحد مكاتب البريد، أتحدث إلى الموظف، الجالس وراء النافذة، باللغة العربية. وكان في كل مرة (يجيبني) باللغة الفرنسية. لن أقول هنا كل انطباعاتي حول هذا الحوار أمام نافذة في إدارة رسمية. إذ يمكن أن نوجزها في كلمة واحدة: “أتمنى على الإدارة الجزائرية أن تعتني أكثر بالعلاقات العامة لديها”.
هذا التمني لا يقتصر على الموظف البسيط القابع وراء نافذته، بل يتعدى ذلك إلى الموظف المحترم الجالس وراء مكتبه الوقور.
وما أريد أن أقوله هنا إن هذا الحوار من وراء نافذة قد أدى بي إلى كتابة هذا المقال.
ولا يتعلق الأمر هنا بطريقة التعامل؛ فقد بدا لي الأمر أشد شذوذا لأن هذا الرجل الذي كان يصم أذني من وراء نافذته بفرنسيته الركيكة، كان قد توجه بالحديث لتوه إلى أحد زملائه ببضع كلمات عربية سليمة.
ومما جعل هذا التصرف أشد استهجانا في نظري، أنه يجسد نوعا من التنافر المتعمد في الوسط الذي أوجده مرسوم إدخال اللغة العربية في الوظائف الرسمية.
ولابد من أن نضيف، أن الرئيس بومدين، يعطي في خطاباته المثل الحي، على الالتزام بالتعريب الحكومي.
ولنضف أيضا لأولئك الذين في نظرهم أن الحقيقة تأتي دائما من وراء حدودنا، بأن المثل يؤخذ من الفيتنام.
آه تلك هي حجة دامغة إن الوزير الفيتنامي، الذي يشرف بلادنا بزيارته، قال في حديث خاص: إن الأجانب الموفدين أنفسهم ملزمون، في بلده، بالتكلم باللغة المحلية.
ونحن في الجزائر لسنا بعد بمثل هذا التشدد؛ ولكن على الأقل، ليقدم موظفونا بذاتهم المثل على ذلك.
صحيح أن مشوهي التعريب ليسوا حديثي العهد؛ فمن الممكن أن نردهم إلى أمد بعيد، حتى في الدول ذات الثقافة العربية، مثل مصر.
ففي بداية هذا القرن، امتدح مفكر بارز من الطائفة القبطية، استعمال اللغة المصرية في الأدب. وكذلك في بلدنا.
هؤلاء المشوهون ليسوا حديثي العهد أيضا؛ بل لقد سار الصراع من أجل التعريب على قدم المساواة مع عداء مجنون للعربية، ومع رغبة ملحة لمحوها.
وبالطبع، بلغت ذروتها تحت الحكم.
ولنعطي فكرة عن ذلك؛ ننشر هنا المقال الذي خصصناه لهذا الموضوع، ونشرناه في مجلة ؟.. في العدد السادس من حزيران سنة 1948.
“لقد افتتحت الجمعية العامة، في جلستها السابعة، نقاشا حول جدوى اللغة العربية، في داخلها”.
وقد اكتسب هذا النقاش منحى قانونيا، وآخر ثقافيا؛ تكلم عنهما السيد (جو – بريسونيار) ببلاغة بسيطة ودقيقة.
ولا نحاول هنا أن نتناول هذه الحجج القانونية، التي دعم بها الخطيب قضيته؛ فهذه أمور نترك للبرلمانيين والموفدين أمر تقدير أهميتها.
والعكس؛ فإن السمة الثقافية لهذه القضية تهم كل مفكر يعد اللغة وسيلة أساسية لتطوير الفكر الشعبي.
إلا أن الفكر العربي وأداة تعبيره، أي اللغة العربية، لا يقترنان اقترانا لا رجوع عنه بشكل معين من أشكال الحياة، بل إنهما يتكيفان، أو يجب أن يتكيفا، مع كل مظاهر الحياة، وخصوصا في وسط الجمعيات.
الحقيقة أنه توجد تقنية برلمانية. ولكن هذا التأكيد الذي لا يمكن إنكار حسن النية فيه، يضع نوعا من الحد العشوائي لرسالة اللغة العربية.
ولكي نكون عادلين في حكمنا هذا، نود أن نستشهد، بادئ ذي بدء، باعتراض أستاذ موثوق به في هذا المضمار، هو (ماسينيون):
لقد قال لنا هذا المستشرق البارز مؤخرا: إن اللغات السامية تمتلك تركيبا مزدوجا:
الأول: هو ما سمح لها بتلقي الكتابات المنزلة.
والثاني: يتعلق نوعا ما بما سمح لهذه اللغات، فيما يعد، أن تلحق وأن تقود كل الفكر الإنساني، وعلى الأخص الفكر العلمي، خلال مئات السنين.
الواقع أن السيد (جو – بريسونيار) لم يخطئ البتة في تأكيده أن “اللغة الفرنسية تعبر أفضل تعبير عن العلوم الوضعية والفكر الغربي”.
ولكنه يشوه التاريخ، حين يضيف، بالأسلوب نفسه، وبخصوص الفكرة ذاتها، أنها (وارثة الحضارة اللاتينية اليونانية).
لكنه لو ادعى لهذا الفكر بميراث الثقافة القروسطية (ثقافة القرون الوسطى) بدءا بالقديس (توما الإكويني)؛ لكان ذلك أشد عدلا وأصوب.
في الحقيقة، الفكر العربي واللغة العربية، هما اللذان التقطا التراث اليوناني ونقلاه، بعد أن طوراه تطويرا ملحوظا إلى أوروبا في القرون الوسطى.
ولاشك أن السيد (جو – بريسونيار) يسلم بأن التقاط هذا التراث، وتطويره ونقله، يتطلب من اللغة العربية، أن تكون شيئا يختلف عن (لغة الدين) البحتة.
والواقع أن هذه اللغة إذا كانت تستطيع اليوم أن تصبو، بوجهها الديني، إلى عالمية حقيقية لكونها تعبر عن فكر 500 مليون مسلم؛ فإنها تستطيع كذلك، أن تعبر عن الفكر التقني لأي حضارة كانت، كما كانت تفعل منذ زمن بعيد في قرطبة وبغداد، إبان العصور الذهبية.
أليس شيئا معبرا أن تكون اللغات الأوروبية، وعلى الأخص اللغة الفرنسية، قد أخذت عن اللغة العربية التقنية التي كانت الأساس اللساني لانطلاقة العلوم الحديثة؟
أليس شيئا معبرا، أن تكون كلمة (chiffres) (الأصل صفر ومعناها العدد) ذاتها (من أصل عربي) في كل اللغات الأوروبية؟
مما لا شك فيه أنه يتحتم على العرب، أن يقوموا بالقفزة ذاتها التي حدثت منذ ثلاثة عشر قرنا؛ لكي يترجموا من جديد الفكر العلمي، وحتى الفكر السياسي.
هذه دعوة لا أعتقد أنه يمكن تجاهلها في رأيي؛ فهي تمنح مسألة التعريب بعدا تاريخيا.
المرجع:
“Laugue et culture”, rèvolution africcaine, no, 273, du gaum 18 mai 1968.